المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى
بقلم: آنا بورشيفسكايا: زميلة أولى في معهد واشنطن
ليستر غراو: مدير الأبحاث في مكتب الدراسات العسكرية الأجنبية في فورت ليفنوورث، كانساس.
مايكل ماكفول: مدير معهد فريمان سبوغلي للدراسات الدولية بجامعة ستانفورد وسفير سابق للولايات المتحدة في روسيا
ترجمة: عبدالحميد فحام
إن التدخل الحالي لـ فلاديمير بوتين في سورية يُعتبر جزئياً امتداداً طبيعياً لاهتمام بلاده الممتد لقرون في الشرق الأوسط، وشرق البحر الأبيض المتوسط على وجه التحديد. فلقد كانت روسيا تاريخياً قَلِقة إلى حد كبير بشأن حدودها الجنوبية، معتبرة إياها خاصرتها الرخوة. ويُعتبر بعضُ جوانب تدخُّل موسكو في سورية فريداً بالنسبة لبوتين، وبعضُها قصيرَ الأجل وقابلاً للتفاوض، لكن المصالح الروسية في المنطقة أعمق بكثير من مجرد مشروع الزعيم الحالي.
ولفهم هذه المصالح، يجب على المرء أن يعترف بأن روسيا لديها رؤية لعالم متعدد الأقطاب، وأن هذه الرؤية تتعارض بطبيعتها مع أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، ركّزت موسكو منذ فترة طويلة على ضبط نفوذ الولايات المتحدة في الخارج. ولقد ورث بوتين وجهة النظر هذه وعمل على أساسها بطرق جديدة. فقد سعى مبدئياً إلى إعادة روسيا إلى الشرق الأوسط، وهو أكثر براغماتية واستعداداً من أسلافه لتنمية العلاقات مع جميع الأطراف في المنطقة. ومع ذلك، فقد قادته رؤيته المعادية للغرب إلى تعزيز العلاقات الأعمق مع القادة ذوي التفكير المماثل مثل رئيس النظام السوري بشار الأسد.
ومن ثَمَّ كان بوتين منذ بداية الحرب السورية مصمِّماً على الحفاظ على الأسد من السقوط. ولم يكن يريد أن يرى الولايات المتحدة تطيح بزعيم استبدادي آخر، لذلك بدأ حماية الأسد بطرق متعددة حتى قبل التدخل العسكري الروسي في عام 2015.
لقد حقق هدفه اليوم وقد فعل ذلك دون الوقوع في مستنقع أو تكبُّد تكاليف باهظة. كما لاحظت بقية المنطقة تعزيز مكانة روسيا في سورية، وهي تبدو في نظرهم، أن التزام بوتين بحماية الأسد يقف في تناقُض حادّ مع التناقض الغربي.
على الأرجح، ستتحول سورية الآن إلى صراع مجمّد. قد يكون هذا مثالياً بالنسبة لروسيا، التي تتمتع بخبرة كبيرة في التعامل مع مثل هذه النزاعات ويمكنها الحفاظ على وجودها في تلك البيئة. ويمكن لموسكو أيضاً أن تعمل كوسيط، والتحدث إلى جهات فاعلة معينة، وهي الأمور التي لا يستطيع الآخرون القيام بها.
وإذا توصل الطرفان إلى حل حقيقي في سورية، فلن يحتاج أحد إلى بوتين، لكن الجميع يحتاجه لإدارة الصراع فقط.
في الوقت الحالي، لا يزال العالم أحادي القطب وتحتفظ الولايات المتحدة بالعديد من المزايا.
لكنها قد تُبدِّد هذه المزايا إذا أساءت التعامل مع الشرق الأوسط.
فالصين هي بحق الأولوية القصوى لواشنطن، لكن لا ينبغي التعامل مع سورية على أنها مجرد مضيعة للوقت.
والسؤال الحقيقي ليس ما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة مقاومة النفوذ الروسي في سورية، ولكن ما إذا كانت ستدرك الأهمية الإستراتيجية للصراع وتستثمر الموارد اللازمة لتحقيق أهدافها هناك.
لن تكون سورية ملفاً سهلاً للتعامل معه بغض النظر عن النهج الذي اتبعته واشنطن. لكن الأسد هو أحد أسوأ الدكتاتوريين في عصرنا، لذا كان اتخاذ موقف أقوى ومبدئي من أكثر الأمور الضرورية منذ البداية، ولا يزال كذلك حتى اليوم.
من الناحية المثالية، ستعيد روسيا تأهيل نفسها يوماً ما وتبتعد عن سلوكها الحالي.
من المؤكد أنه لا توجد سوابق كثيرة لمثل هذا التحوّل، على الرغم من أنه يمكن العثور على أصوات ليبرالية بين القيادة الروسية في وقت مبكر من فترة ولاية بوريس يلتسين خلال التسعينيات، إلا أنها سُرْعان ما تم إبعادها، وتم إغلاق الباب على تلك الفرصة لكننا نأمل أن يتكرر ظهور مثل تلك الأصوات مرة أخرى في المستقبل. بعيداً عن كونه مستنقعاً، أثبت الصراع السوري أنه ساحة مثالية للجيش الروسي لشحذ قدرته، وتجربة أنظمة قتالية جديدة، واختبار تحمُّل الضغط وإصلاح الأنظمة القديمة، وتوفير الخبرة القتالية لجميع القوات.
وكانت خسائرها محدودة للغاية بشكل متوازن. الاستثناء الوحيد كان أسطول الإنزال البرمائي، الذي تم نشره على نطاق واسع لدعم الأسد، وتسبَّب في أضرار جسيمة، ويتم الآن إعادة بنائه بتكلفة كبيرة.
كما استخدمت القوات الروسية التدخل لشحذ بعض قدراتها. فعلى سبيل المثال، كان نشرهم لنظام جسر عائم جديد على طول نهر الفرات إنجازاً هندسياً مذهلاً.
وقد حقق الجيش أهدافه الإستراتيجية في دعم الأسد في الوقت الذي يجني فيه أيضاً فوائد فورية أكثر لنفسه.
واكتسبت مجموعة "فاغنر" وشركات عسكرية خاصة أخرى متحالفة مع الحكومة الروسية أيضاً خبرة قتالية قيّمة في سورية.
ولقد مكّنت هذه المنظمات موسكو من الانخراط في عمليات قد لا تريد أن ترتبط بها بشكل مباشر، مما يوفر إمكانية إنكار معقولة مع الاستمرار في تعزيز أهداف "الكرملين" في سورية.
لم يكن تدخل موسكو خالياً من التحديات، ويمكن أن تؤدي التوترات المختلفة التي تغلي تحت السطح إلى ظهور مشكلات في المستقبل.
على سبيل المثال، يوجد في روسيا أقلية مسلمة كبيرة، وقد يؤدي التدخل في سورية إلى تفاقُم العلاقات المتوترة بين هذه المجموعة أحياناً مع المجتمع المسيحي في البلاد.
لكن خلاصة القول هي أن موسكو حققت هدفها الأساسي -بقاء نظام الأسد- دون الدخول في المستنقع الذي توقعه الكثيرون، ومع بعض الفوائد الإضافية لجيشها.
على الرغم من أن عام 2015 كان العام الذي بدأ فيه سلاح الجو الروسي قصف عناصر المعارضة في سورية، إلا أن موسكو تتمتع بوجود دبلوماسي وعسكري قوي في البلاد منذ عقود. فخلال فترة وجودي في الحكومة، كانت سورية أبرز قضايا السياسة الخارجية على جدول الأعمال، والواقع أننا فشلنا هناك بشكل كبير.
وأعتقد أننا بحاجة إلى أن نكون واضحين بشأن ذلك- إن نهجنا لم ينجح، والسؤال إذن: ما الذي كان يمكننا أن فعله غير ما قُمْنا به؟
شعر بوتين بقوة بدعم الدكتاتوريين في مواجهة الثورات المدعومة من الغرب. وبناء عليه فإن السؤال المطروح هو: هل ستتصرف روسيا دائماً بهذه الطريقة، أم يمكن أن تتغير هذه العقلية، هل ستبقى ثابتةً حتى في ظل زعيم جديد؟ كنت في الوزارة في آذار/ مارس 2011 عندما أذعن الرئيس ديمتري ميدفيديف لتدخل الأمم المتحدة ضد الدكتاتور الليبي معمر القذافي. ونعلم أن بوتين لم يستجب لذلك.
لذا فإن استدامة إستراتيجية موسكو المعادية للغرب هي سؤال مفتوح.
في الوقت الحالي، حقق بوتين هدفه الأساسي في سورية، وهو إبقاء الأسد في السلطة. ولقد حقق أيضاً بعض الفوائد الثانوية، لا سيما في اختبار وإظهار أنواع جديدة من القوة العسكرية. ولا تزال هناك حدود لنجاحاته كما لا تزال سورية منطقة صراع شديدة الانقسام.
فهل هو مرتاح لهذا الترتيب؟ هل يهتم بتوحيد البلاد؟ لذلك تحتاج واشنطن وشركاؤها إلى تحديد ما إذا كان بإمكانهم التعايش مع هذا الوضع الراهن. حالياً، يبدو بوتين سعيداً بالصراع المُجمَّد طالما لا أحد يولي اهتماماً جادّاً لسورية.
ويعتقد المسؤولون الأمريكيون غالباً أنهم بحاجة إلى "حل" المشكلات العالمية مثل الصراع في سورية، لكن بوتين يرى الأمر بشكل مختلف. إنه سعيد بترك المشاكل قائمة حتى تتلاشى مصلحة الولايات المتحدة فهو لديه إستراتيجية عامة في انتظار الأشياء.
وتشير بعض رسائل إدارة بايدن إلى أنها مرتاحة أيضاً للصراع المُجمَّد، سواء في سورية أو مع روسيا بشكل عامّ. ومع ذلك، لا تزال إستراتيجية البيت الأبيض تِجاه سورية مُربِكةً.
فعلى ما يبدو أنهم قلقون للغاية بشأن القضايا الصغيرة مثل المفاوضات بشأن المساعدات الإنسانية عَبْر الحدود.
وتُظهر حقيقة أن واشنطن تقضي وقت الرئيس الأمريكي في الضغط من أجل معبر حدودي واحد أن ميزان القوى في سورية قد تَحوَّل بشكل كبير في اتجاهٍ مُوَاتٍ لروسيا.