لقد توالت القوى الفاعلة في الصراع السوري طَوال العقد الماضي وَفْق ثلاث قوى أساسية بدت ملامحها واضحة متميزة، وهي قوى التغيير والثورة التي انتفضت ضدّ نظام الفساد والاستبداد. ثم حدث التحول الأول مع ظهور قوى الفوضى التي أشعلت الحرب العرقية والطائفية وأُدخلت كمعامل معقَّد للصراع لتغيير هوية الحرب من ثورة كان ما يشكل طرفيها هما الشعب السوري في مقابل نظام الأسد إلى حرب بين نظام وقوى إرهابية، ثم حدث التحول الثالث وهو انحسار قوى الفوضى مثل "داعش" وقوات "pyd" وتنظيم "القاعدة" وخضوع بعض هذه القوى إلى تعديل بنيوي تمخضت عنها قوى الضبط فظهرت "قوات سورية الديمقراطية" و"تحرير الشام" وفصائل "الجيش الوطني" التي تقوم اليوم بضبط المناطق الواقعة تحت سيطرتها أمنيًّا وعسكريًّا والحفاظ على خطوط وَقْف إطلاق النار.
ولا نزال ننتظر التحوُّل الرابع وهو ظهور قوى الحل التي ستعيد رَأْب التصدع في العَقْد الوطني وتأسيس حالة من السِّلْم الأهلي بعد تفعيل مسارات الحل السياسي واختيار الأدوات المناسبة.
لكن مع صعود قوى الحل النهائي للصراع في سورية ومع نهاية التصفيات النهائية بين الفصائل والمجاميع الجهادية التي تقوم اليوم بتصفية بعضها بعضًا وتفكيك ما تبقى منها سينحسر المشهد عن أزمات عالقة بدون حلّ، وسيحمل في طياته مُفرَزات خطيرة للأزمة المركزية في الصراع السوري، ليس وحدها مشكلة عودة المهجرين وإعادة الإعمار فهناك مشكلة المقاتلين ومستقبل هؤلاء ومصيرهم بعد نهاية الحرب على كل الضفاف إن كان في ضفة المعارضة أو في ضفة قوات سورية الديمقراطية أو في ضفة النظام.
لكن تبقى مشكلة المقاتلين الأجانب على ضفة المعارضة السورية والمتوزعين اليوم في إدلب هم مصدر القلق الرئيسي للجهات الدولية، وذلك لعدة أسباب يبدونها بالعادة.
أولًا: هناك عدد أكبر نسبيًّا من المقاتلين الأجانب مقارنة في الحالة المشابِهة في العراق والشيشان وأفغانستان، وإن وَضْعهم وتجميعهم في مخيمات كبيرة -كما هو الحال في مخيم "الهول" بما يُشبه المعتقلات الجماعية- قد يؤدي إلى تغذية ظاهرة التطرف وتحويل هذه المخيمات إلى مفارخَ مُنتِجة للجهاديين والمقاتلين.
ثانيًا: هؤلاء الأفراد لديهم خبرة قتالية أكبر من حيث استعمال التكنولوجيا الحديثة ومن حيث الخبرة المكتسبة في الحرب السورية طول السنوات الماضية.
ثالثًا: الكثير من هؤلاء المقاتلين لا يخضعون لقيادة دولة مركزية يمكن التفاهم معها لضبط سلوكهم كما هو حال الميليشيات الإيرانية، وكلهم مدفوعون بالحماسة الأيديولوجية لإعادة إنشاء الخلافة وإرساء الإسلام والهيمنة الإسلامية في جميع أنحاء العالم، وهذه الفكرة لا تزال تشكل جاذبية كبيرة لهم للبحث عن ساحات قتال أخرى.
ورابعًا: إن جاذبية الأفكار العابرة للحدود، جنبًا إلى جنب مع التطورات التكنولوجية، تُمكِّنهم من العمل بفعالية بناءً على هذه الأفكار وتوسيع نطاق التهديد والتجنيد لهذه الجماعات.
يبدو أن التحالف الدولي عمل في المرحلة الماضية وضِمن إستراتيجية الحرب على الإرهاب على إعادة الفرز والتصنيف للمقاتلين الأجانب في شمال غربي سورية بين القوى المتشددة أيديولوجيًّا والمستعصية على التحول والاعتدال وبين القوى المتحوِّلة والقابلة للاعتدال والعمل على تصفية كل مَن لا يزال يرتبط بتنظيمات عابرة للحدود أو أنه يُشكِّل خطرًا محتملًا على الأمن الدولي.
ثم دمج القوى والعناصر القابلة للاعتدال والتحول للانضمام داخل تنظيم "تحرير الشام" ولتلعب "تحرير الشام" دورها في تفكيك وترتيب المشهد الجهادي بما يحقق المصالح الدولية ويمنع خطر هذه العناصر والتنظيمات من استهداف المصالح الغربية والدولية خارج الحدود، وهذا ما بِتْنا نلاحظه اليوم من ملاحقة "تحرير الشام" لخلايا "حراس الدين" و"داعش" وتفكيك فصائل أخرى مثل "جنود الشام" و"أنصار الإسلام".
لكن رغم ذلك فإن كل ما يفعله التحالف الدولي من إدارة ملف المقاتلين الأجانب لا يحلّ حال مشكلة وجود هذه العناصر الأجنبية المقاتلة من جذورها ولو من تلك العناصر غير الفاعلة في هذه المرحلة والتي لا يستبعد أن تعود للفاعلية من جديد عندما تسنح لهم الفرصة ستبقى سؤالًا يطرح على مسارات الحل النهائي، وكيف يمكن تسوية أوضاع هؤلاء المقاتلين.
يبدو أننا أمام أربعة سيناريوهات محتملة لتحديد مصير المقاتلين الأجانب في سورية، لكن لا يعني أن سيناريو واحدًا من هذه السيناريوهات سيتحقق بل ربما تتحقق كل هذه السيناريوهات تبعًا للظروف القادمة ولشرائح المقاتلين الأجانب واختلافاتهم الأيديولوجية واختلاف جنسياتهم.
السيناريو الأول: أن يتم دمج هؤلاء المقاتلين ضِمن المجتمع السوري وقبولهم كمواطنين عاديين، وهذا السيناريو مستبعد جدًّا لارتباط مسألة الحل النهائي ببحث مصير المقاتلين الأجانب على ضفة النظام من الميليشيات الإيرانية الشيعية، التي فاق عددها إلى عشرات الآلاف إضافة للمقاتلين الأجانب المنضوين ضِمن قوات سورية الديمقراطية، إضافة أن المقاتلين الأجانب من الجهاديين في أغلبهم ليسوا حلفاء للثورة السورية والمعارضة السياسية أصلًا لكي تطرح مصيرهم كملفّ يمس مصالح المعارضة أو الثورة على طاولة الحل.
السيناريو الثاني: أن تقبل الدول المُصدِّرة للمقاتلين الأجانب بعودة هؤلاء مع عوائلهم إلى أوطانهم وتعمل على إعادة استيعابهم ودمجهم ضِمن مجتمعاتهم حتى يتحولوا إلى مواطنين عاديين، وهذا يمكن أن يكون حلًا في بعض الدول الديمقراطية التي تمتلك برامج لتأهيل مثل هؤلاء، أما في حالة الدول الأمنية فإن مصيرهم سيكون إلى المعتقلات والسجون.
السيناريو الثالث: هو أن تقوم دولةٌ ما لها مصلحة في جمع داتا وقاعدة بيانات عن الجهاديين بإعطاء لجوء سياسي لشريحة من الجهاديين الرافضين للعودة إلى بلدانهم بسبب التعاطي الأمني مع ملفهم وممن لا يشكلون خطرًا أمنيًّا عليها بحيث يتعهدون بعدم ممارسة أي نشاط جهادي.
السيناريو الرابع: أن يتم الدفع بهؤلاء المقاتلين إلى ساحة قتالية أخرى واستنزافهم في جبهات مشتعلة أو مرشحة للاشتعال، سواء كان في إفريقيا أو أفغانستان لكن في الحالة الأفغانية يمكن أن يكون الأمر متوقفًا على تطوُّرات المشهد هناك، حيث لا يبدو أن "طالبان" حاليًا بحاجة لمقاتلين أجانب كون المعركة تتجه للحسم لصالح طالبان لكن ربما يكون الالتحاق من عناصر القاعدة إلى تنظيم "خراسان" أو إلى فرع "داعش" هناك.
الخُلاصة
إن هذه السيناريوهات المحتملة لا تعني أننا أمام تحقُّق سيناريو واحد، والمرجَّح ربما تتحقق كل هذه السيناريوهات ولو بشكل جزئي، فربما نشهد انزياح العناصر الأكثر تشددًا من خلايا داعش للالتحاق بباقي فروعها في أفغانستان أو نيجيريا وإفريقيا، والتحاق عناصر تنظيم "القاعدة" بفروع القاعدة في الصومال واليمن، أما بالنسبة للعناصر البعيدة عن التطرف ولا ترغب بالاستمرار في حياة القتال فقد تعود إلى بلدانها أو تحصل على ما يشبه لجوءًا سياسيًّا عند بعض الدول المهتمة بتجميع البيانات عن الجماعات الجهادية، أما العناصر التي من الممكن أن تبقى في سورية فهي العناصر التي يمكن أن تبقى بطريقة غير قانونية ومُتخفِّية.