أنهى المبعوث الأميركي الخاص للملف الإيراني، روبرت مالي، مشاورات مكثفة أجراها مع الحلفاء والشركاء في الشرق الأوسط وأوروبا بشأن المفاوضات المعلّقة مع طهران والتي من المتوقع أن تُستأنف في وقت قريب كما صرّح الرئيس الأميركي، جو بايدن، في إجابة على تساؤل الإعلام خلال مؤتمر مجموعة العشرين (G20) الذي عُقد في العاصمة الإيطالية روما مؤخراً.
من الجلي أن محاولة إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) التي تعود جذورها الأولى للعام 2015، وإثر جولات ست في فيينا، لم تسفر عن أي تقدّم في المحادثات المتعلقة بعقدة ملف طهران النووي الذي بدأ يقترب شيئاً فشيئاً من إنجاز هدفه الرئيس ألا وهو إنتاج سلاح الدمار الشامل النووي.
الحُجَج التي تسوقها طهران لمنع التقدّم في المحادثات تكاد تكون واهية وغير منطقية، وأضحت الغاية منها ساطعة للمؤتمرين كافة والعالم؛ فالتعطيل والتسويف -اللذان يلجأ إليهما الوفد الإيراني المفاوض في فيينا كلما أوشكت الدول المعنية بالمفاوضات على تحقيق اختراق مُجْدٍ- أصبحا علامة فارقة ومكشوفة للجميع.
إيران تشتري الوقت في فيينا، بينما عمليات التخصيب في مخابرها ومنشآتها النووية -المعلنة منها والسرية- قائمة على قدم وساق.
مما لا ريب فيه أن إيران ماضية في برنامجها النووي دونما هوادة أو تلكّؤ، أفقياً في توسيع خطط البرنامج وتمكينها، وعمودياً في اعتماد إستراتيجية ثابتة تهدف إلى إبعاد فاعليات منشآتها النووية عن الرقابة، ووضع العصي في عجلات الوكالة الدولية للطاقة الذرية كلما أرادت الكشف المباشر عن تلك المنشآت النووية لتحدّد مدى التزام طهران بالحد المسموح لها من تخصيب مادة اليورانيوم بما يفيد استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية والمدنية حصراً.
دبلوماسية المبعوث الأميركي، روبرت مالي، قادته إلى موسكو ودول الخليج العربي والدول الأوروبية المشاركة في المفاوضات المباشرة، وذلك بهدف توحيد الجهود بالقدر الممكن لاستئناف المفاوضات المعلقة بإرادة طرف واحد معطِّل (بكسر الطاء).
فالملف النووي لم يعد مُقلِقاً للولايات المتحدة وحَسْبُ، بل تشترك معها دول العالم في التوجّس من النوايا الإيرانية المضمرة، ولاسيما أن طهران قد قررت استئناف أنشطتها النووية بطرق خبيثة تثير أسئلة خطيرة عما يدور في الخفاء النووي الإيراني، بينما ينفد صبر واشنطن وحلفائها من المماطلة الممنهجة للحكومة الإيرانية في متعلِّقات هذا الملفّ!
انتهت جولة مالي الموسعة إلى دول مجلس التعاون الخليجي والدول الأوروبية الثلاث الرئيسة المعنية بالتوافق على خطة عمل تتكون من مساريْنِ رئيسيْنِ، الأول يعتمد على مبدأ المسؤولية الكاملة التي تقع على إيران من جهة، والأطراف الأخرى المعنية من جهة أخرى، لضرورة إيجاد حلول ناجعة وتوافُقية للمسائل التي بقيت معلّقة بعد الجولة السادسة من المحادثات في "فيينا" والتوصل إلى سُبل عملية تُرغم إيران على الالتزام بالقيود المفروضة على برنامجها النووي والتي وافقت عليها في مفاوضات "فيينا" الأولية في العام 2016، وبالتالي تقوم الولايات المتحدة برفع العقوبات الاقتصادية التي تتعارض مع الاتفاقية التي تم التوصل إليها.
والمسار الثاني سيكون أكثر انفتاحاً على الدبلوماسية والتعاون مع إيران ضِمن شروط معينة يجب أن تحققها طهران. سيتيح هذا المسار لدول المنطقة تطوير علاقات اقتصادية أوثق مع إيران، وكذلك الأمر بالنسبة للدول الأوروبية. وبالطبع فإن المضي في المسار الثاني الأقل تشدُّداً من الأول لا يمكن أن يتحقق طالما لم تتراجع إيران عن صلفها وتعود بالتالي إلى الامتثال الطوعي بخطة العمل الشاملة المشتركة.
لكن، وفي مقابل خطة العمل البنّاءة الآنِفة الذكر التي تصبو من خلالها واشنطن وشركائها إلى حلّ عقدة "كرة الصوف" الإيرانية وقد بدأت تزداد تعقيداً وابتعاداً سريعاً عن ناصية الحلول الممكنة بل وتثير مخاوف وقَلَق العالم برُمَّته، يأتي احتمال أن تختار إيران مساراً مغايراً تماماً، وتمضي في مسيرة تعطيل المفاوضات كما عهدناها، أو في أحسن الأحول حضور المفاوضات وتفخيخها بمطالب تتجاوز المعايير الدولية المحددة لاستمرارها.
وفي حال فشلت الجهود الدبلوماسية الحثيثة التي تقودها الولايات المتحدة لتسوية هذا الأمر، فإن في جعبة الرئيس الأميركي ووزير خارجيته خطط بديلة ستستخدمها واشنطن دونما تأجيل لتأكيد التزامها الأخلاقي والسياسي بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي من أسلحة الدمار الشامل.
من نافلة القول أنه في كل يوم يمر على العالم تُؤجِّل فيه إيرانُ القيامَ بواجباتها، أو تماطل، أو تمتنع عن اتخاذ مبادرة تتسق مع موقف تفاوضي عادل يسمح لها بالعودة الطوعية والملزِمة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، إنما هو يوم آخر ضنين على الشعب الإيراني، يوم يُحرم فيه من إمكانية تخفيف العقوبات الواقعة عليه، والتي أضنت كاهله.
وإنه يوم آخر سيعني حرمانَ الدولة الإيرانية من الفرص الاقتصادية والموارد التي ستتيحها عودتها
إلى جادَّة الصواب لتنفيذ التعهدات التي قطعتها على نفسها على مسمع ومرأى دول العالم المتمدن قاطبة.
وإنه يوم آخر من حالة الرعب العامّ، وقد جلبته حكومات الملالي المتشددة المتعاقبة على السلطة منذ العام 1979، دون أن تسمح ببصيصِ ضوءٍ واحدٍ في نهاية هذا النفق، ولا مخرج ممكن من الفضاءات الداكنة للكابوس النووي الذي تُعِدُّ له العُدَّة منذ عقود.