على الرغم من نفي نظام الأسد المتكرر لاستخدامه أسلحة كيميائية محرَّمة دولياً ضدّ مدنيي الشعب السوري، إلا أن فريق التحقيق وتحديد الهوية التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية توصَّل إلى دلالات وبراهين ميدانية تُثبت ضلوع النظام السوري باستخدام السلاح الكيميائي في العديد من المدن والبلدات الآهِلة بالسكان، وأن هذا السلاح لا يمكن استخدامه إلا من قِبل جهات حكومية وليس من قُوَى المعارضة.
محاولات النظام مستمرة في تجنُّب الخضوع للمساءلة القانونية نتيجة لمعطيات التحقيق الأممية. وقد سعى دون هوادة إلى عرقلة التحقيقات المستقلة بكل الوسائل الممكنة، وكذا تمنَّع عن التعاون مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بصفتها الهيئة المنفذة لاتفاقية حظر انتشار هذا السلاح.
وقد تعمَّد النظام السوري في شهر تشرين الأول/ أكتوبر الجاري إعاقة وصول خبراء متخصصين من المنظمة لاستكمال مهمتهم في سورية من خلال عدم منح تأشيرات دخول لكافة أعضاء فريق إعلان التقييم التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
وقع اختيار نظام الأسد على عضو متمرّس من فريق إعلان التقييم ورفض إصدار تأشيرة الدخول له، على الرغم من حقيقة أن هذا الخبير قد تم إرساله إلى سورية لهذه الوظيفة عدة مرات خلال السنوات السبع الماضية، وأن التأخير في جدولة هذه الاستشارة وكذلك رفض منح تأشيرة الدخول أعاق قدرة فريق إعلان التقييم وكان سبباً في منعه من أداء عمله بصورة متكاملة.
وفي الوقت الذي أصبحت التهم مثبتة دولياً على النظام، فإنه يتابع الهروب إلى الوراء والمضي في حالة الإنكار، ويرفض الاعتراف بالمسؤولية والامتثال الكامل للقرار الأممي رقم 2118.
أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية مؤخراً بياناً رسمياً أدرجت فيه إحاطة نائب ممثلها في الأمم المتحدة، السفير ريتشارد ميلز، والتي أسهب بها في شرح موقف النظام السوري الممانع للحيلولة دون انتشار واستخدام السلاح الكيميائي، في تناقض مطلق مع ما ذكره ممثل نظام الأسد، فيصل المقداد، الذي ادعى في خطاب ألقاه بتاريخ 27 أيلول/ سبتمبر الفائت أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن انضمام النظام إلى اتفاقية الأسلحة الكيميائية كان بمثابة الدليل القاطع على أنه لم يستخدم تلك الأسلحة.
السفير ميلز دحض ادّعاءات المقداد مفيداً في إحاطته أمام مجلس الأمن أن واشنطن "تتفق مع تقييم منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بأن الكشف الذي قدمه نظام الأسد بشأن أسلحته الكيميائية لا يمكن اعتباره دقيقاً وكاملاً، وَفْقاً لاتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، ونحن في واشنطن نحثّ النظام السوري على العمل بشفافية والتعاون الكامل مع المنظمة الدولية في هذه القضية العاجلة".
ووجَّه ميلز أصبع اتهامه مباشرة إلى حلفاء نظام الأسد، بما فيهم روسيا، قائلاً: "إنهم سعوا بفعالية إلى عرقلة جميع الجهود لتعزيز المساءلة".
وأردف: "إن روسيا تواصل الدفاع عن إخفاقات نظام الأسد في الامتثال لالتزاماته من خلال نشر المعلومات المضللة ومهاجمة النزاهة والعمل المهني لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وكذلك السعي إلى عرقلة الجهود الأممية المستمرة لمحاسبة نظام الأسد، علماً أن هذا النمط من التمكين غير مسؤول وخطير، ويجب عدم التسامح مع إخفاقات نظام الأسد المتكررة والمتواصلة في الامتثال لالتزاماته بموجب القانون الدولي".
إن إعادة ملف الأسلحة المحرَّمة دولياً إلى الواجهة الأممية -تلك التي استخدمها النظام السوري دون أي رادع ضميري أو إنساني ضد شعب أعزل جريح- وفي هذا التوقيت بالذات، قد تعني الكثير في مرحلة دقيقة من التجاذُبات الدولية بين داعمي الأسد من جهة وعلى رأسهم إيران وروسيا، وداعمي المعارضة والقرارات الأممية من جهة أخرى بهدف تنفيذ بنود الانتقال السياسي بموجب القرار الأممي 2254 الملزِم للأطراف كافة المنخرطة في المعضلة السورية.
ومع اقتراب التشنّج في الشمال السوري من أعلى درجات الخطر الذي ينبئ بانفجار مرتقَب بين القوى المتصارعة على النفوذ والوجود هناك، سواءً بسواءٍ على الضفة الشرقية للفرات أو الغربية منه، يأتي الضغط الأمريكي في مجلس الأمن بما يتعلق بملف السلاح الكيميائي محوراً ليس الوحيد من محاور الضغط الدولي على النظام لدفعه إلى الامتثال للنداء الدولي بحتمية الشروع في الانتقال السياسي، وجميع تلك المحاور تمثّل ملفات معقدة تتعلق بانتهاكات إنسانية وجرائم حرب مرتكبة وخرقٍ أَرْعَنَ للمواثيق الدولية وتغذية الإرهاب ممثلاً بالميليشيات الإيرانية العابرة للحدود، وما ارتكبت من فظائع ليس في سورية وحَسْب بل في العراق ولبنان واليمن.
فصل المقال يكمن في عمق الحالة السورية إثر عشر سنوات من إعلان النظام المحتلّ لدمشق الحرب ضد الشعب السوري، وإثر حروبٍ رَعْناءَ متنقلةٍ على أرض سوريّة سيادية، وقد استباحها حلفاء النظام "رسمياً"، وبطلب منه، حَسَب رواية الجيش الروسي النظامي من طرف، وميليشيات إيرانية خارجة على القانون من طرف آخر.
هذا ناهيك عن "بروكسي" المنظمات الإرهابية الذي كان النظام قد درَّبها أصلاً للقتال في العراق، ثم استعادها إلى سورية لإعانة قواته على المقتلة الكبرى التي مارسها ضد المدنيين العزل من السوريين المكلومين.
لا بدّ للحالة السورية المستعصية من خواتيم تُرضي الحقَّ الإنسانيَّ أولاً، والضميرَ الدوليَّ ثانياً، والذي يتحمّل جزءاً كبيراً من الغطرسة التي يتمتع بها نظام بشار الأسد وحلفاؤه، وقد آنَ الأوانُ لكفّ يد البلاء عن سورية والسوريين، هذا البلاء الذي ضربت أصداؤه العالمَ ولا مِنْ سميعٍ!