خلال إحاطتها الأخيرة أمام مجلس الأمن الدولي بشأن سوريا، تطرقت ممثلة واشنطن في الأمم المتحدة السفيرة ليندا غرينفيلد إلى العديد من المحاور المتعلقة بالمستجدات الميدانية والسياسات الجارية على الساحة السورية.
وكان من أولويات اهتمامها كما بدا في خطابها أمام أعضاء مجلس الأمن بتاريخ 24 آب/أغسطس الفائت الحصار ثم الهجوم الذي يشنه النظام وأعوانه على المدنيين المحاصرين في درعا البلد دون التوصّل -حتى تاريخ كتابة هذه السطور – إلى اتفاق مقبول وطويل الأمد للأطراف المنخرطة بوقف الأعمال القتالية وتأمين إيصال المساعدات الإنسانية لآلاف المحاصرين من العائلات وبينهم الشيوخ والأطفال والمرضى الذين يحتاجون إلى دعم غذائي ودوائي إنقاذي عاجل.
وأكدت السفيرة غرينفيلد على ضرورة تنفيذ فوري لوقف إطلاق النار من جميع الأطراف والشروع في "تطبيق تدابير بناء الثقة من أجل السلام والوضع الإنساني المزري"، كما جاء في خطابها.
واقع الأمر أن هجوم النظام السوري وميليشياته الرديفة الممولة من إيران بشكل مباشر، والطائفية الهوى والسريرة، قد استهدف المدنيين العزل في عقر دارهم وتسبب بمقتل العشرات بينهم أطفال ونساء، بينما كان أهل درعا يكافحون للبقاء على قيد الحياة في ظل ظروف لا إنسانية من انقطاع الماء والغذاء والكهرباء والدواء عنهم بينما تقف المنظمات الإغاثية الدولية عاجزة عن الوصول إلى المحتاجين بسبب منع النظام لها من التوجّه إلى الأحياء المحاصرة.
من اللافت في خطاب غرينفيلد ما توجهت به مباشرة إلى نظام دمشق بقولها: "يستطيع النظام السوري أن يحرز بعض التقدم من خلال معالجة أزمة المعتقلين والمفقودين، ويدرك النظام السوري ذلك ويعلن من حين لآخر عن قرارات عفو مزعومة، إلا أنه لم يبذل بعد أي جهود ذات مغزى لمعالجة هذه المسألة الحرجة".
وعادت لتشدد على ما يجب على النظام تنفيذه مباشرة: "ينبغي أن يفرج نظام الأسد بشكل فوري عن عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال المحتجزين بشكل تعسفي وأن يوفر المعلومات حول مصير أكثر من 130 ألف سوري يقال إنهم مفقودون أو محتجزون بعد أن اعتقلهم النظام تعسفياً".
تلك كانت المرة الأولى التي يجتمع فيها مجلس الأمن الدولي بشأن الوضع الإنساني في سوريا منذ تجديده لتفويض مرور المساعدات الإنسانية الأممية واستعادة شريان الحياة الحيوي العابر للحدود السورية مع تركيا في نقطة "باب الهوى"، حيث يصل منذ أعلن مجلس الأمن عن صدور قرار تجديد التفويض ما يقارب الألف شاحنة إغاثية شهرياً محملة بالأغذية والأدوية بما فيها اللقاحات والمعدات لمنع انتشار كوفيد-19، وليستفيد منها ما ينيف على ثلاثة ملايين سوري في حاجة ماسة في الشمال الغربي من البلاد. وتستمر عمليات الإغاثة لمدة عام آخر.
قد يكون الشمال السوري بشقيه الغربي والشرقي أفضل حظاً اليوم مع وصول المساعدات الإنسانية بالرغم من بقاء معبرَيْ باب السلام واليعربية مغلقين في وجه العمل الإغاثي من حظوظ أهل الجنوب في درعا البلد. وبالرغم من الجهود الاستثنائية التي يبذلها المجلس من أجل توفير الدعم الإنساني للسوريين العالقين بين أطراف الصراع من نازحين ومهجرين ومحاصرين، إلا أنه لا بد لأعضائه من التوصّل إلى آلية صارمة لتنفيذ كل ما يتم الاتفاق والتصويت عليه من قرارات وإنذارات للنظام السوري على المستويات السياسية والإنسانية والميدانية كافة.
أما إشارة غرينفيلد بالأرقام والإحصاءات الرسمية إلى عدد المفقودين والمعتقلين في سجون النظام السوري ومطالبتها النظام بالإعلان الفوري عن مصير عشرات الآلاف منهم، فهي تبدو إعلاناً صريحاً لخطوة قادمة للولايات المتحدة تهدف من خلالها إلى توفير الآليات اللازمة لتسوية ملف المعتقلين والمغيّبين قسراً والضغط باتجاه نفاذها بقرار واضح من مجلس الأمن، تماماً كما تحقّق تشغيل الممر الإغاثي في باب الهوى حين توفرت الإرادة السياسية الدولية.
فالولايات المتحدة مصرّة على تسوية ملف الاعتقال والإذعان للقرارات الأممية قبل رفع العقوبات المدرجة على سوريا وحلفائها، العقوبات التي تستهدف من يسرقون الشعب السوري من خلال ممارساتهم الفاسدة وارتكابهم جرائم الحرب، ولا تطال أبناء الشعب السوري بأي حال.
والولايات المتحدة لن تخضع للأفكار غير البنّاءة التي تروّج لها روسيا في إعادة اللاجئين إلى بلادهم قبل الشروع بانتقال سياسي كامل ضمن البنود التي أقرها مجلس الأمن في القرار رقم 2254، ولن تشارك في أية جهود لإعادة الإعمار وتمكين عودة اللاجئين قبل أن تتحقق الشروط المدرجة ضمن ميثاق الأمم المتحدة لعودة آمنة وكريمة وطوعية لهم.
من نافلة القول أن القرارات المتعلقة بالمساعدات الإغاثية التي يمرّرها مجلس الأمن قد تفوقت على قدرته على تمرير وإقرار الملف ما فوق التفاوضي، وهو ملف معتقلي الرأي في سوريا والمغيبين والمختطفين من قِبل الأجهزة الأمنية السورية ومجموعاتها المسلحة التي تتحرك كلياً خارج القانون، وقد آن الأوان لأعضاء مجلس الأمن أن يقرنوا أفعالهم بالأقوال في هذا الشأن. فالشهداء الأحياء في المعتقلات السورية لهم الأولوية الآن بما يتقدّم في أهميته وإلحاحه على أي تحرك سياسي آخر بما فيه استئناف أعمال اللجنة الدستورية.
غرينفيلد التي حضّت الأعضاء المجتمعين على عدم الاكتفاء بالكلام في مواجهة الأزمة الأكثر إلحاحاً في سوريا تسعى إلى طرح ملف المعتقلين بشكل جاد وغير قابل للتسويف أو المماطلة على رأس برنامج الاجتماع القادم الذي يخصص لسوريا ومأساة شعبها وهو ينتظر الخلاص من هذه المقتلة اليومية التي ناهز عمرها عقداً من الزمن.
فهل ستنجح الإدارة الأمريكية بالمضي في هذا الاتجاه فارضة إرادتها بقوة لطيّ ملف المعتقلات السورية وإنهاء عهد الاعتقال الأسود، لاسيما أنها بحاجة إلى اختراق سياسي في سوريا إثر تعثرها الفادح في أفغانستان وما ترتّب عليه من نقد لاذع لقرارات الرئيس بايدن غير الحازمة في الوقت الذي يلزم فيه الحزم؟!