إثر نشر منصات إطلاق الصواريخ الروسية من طراز S-400 في تركيا بالرغم من اعتراض الحلف الأطلسي التي تحمل أنقرة صفة العضوية فيه، يأتي دور الهند لتتمّ صفقة موازية مع موسكو، ولتؤكّد الأخيرة بأنها ستقوم بتسليم هذه المنظومة الدفاعية في الوقت المتفق عليه بين الدولتين دون تأخير.
التوسّع العسكري الروسي ونشر الأسلحة الإستراتيجية في كافة الاتجاهات الممكنة ليس سوى مسار جديد لروسيا الاتحادية لتحقيق إستراتيجياتها التوسعية وبسط نفوذها بعد انحسار طويل، وذلك ابتداء من الصين، ثم أفغانستان، وصولاً إلى عمق الشرق الأوسط في الأردن والعراق، وانتهاء بالشواطئ السورية وقريباً اللبنانية.
أما زيارة ملك الأردن، عبد الله بن حسين، للرئيس الروسي بوتين مؤخراً، وهي زيارة تلت مباشرة زيارته للرئيس الأميركي بايدن في العاصمة واشنطن، فهي تشي بالكثير من الدور الذي تريد موسكو أن تلعبه في رسم خارطة طريق لها في ما أطلق عليه مشروع "الشام الجديد"، ولتحدد معايير جيوسياسية مستحدثة تضمن مصالح روسيا العليا بمنأى عن رضا أو رفض الغرب الأوروبي والأمريكي لهذا التمدد الأخطبوطي الذي لم تشهد المنطقة له مثيلاً منذ سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي في ثمانينيات القرن الفائت.
وذكرت التقارير الإعلامية التي نشرتها موسكو بُعيد لقاء القمة الأردني- الروسي أن الزعيمين بحثا بشكل تفصيلي ملفيّ سورية وأفغانستان. كما صرّح بوتين إثر انتهاء اللقاء بأنه "يأمل في تبادل وجهات النظر حول الأمور الأكثر إلحاحاً بما يتعلّق بتطبيع الوضع في سوريا والتصعيد الراهن في أفغانستان".
بدا أثر هذا اللقاء واضحاً ومباشراً على الأرض السورية في درعا البلد من خلال التسوية التي فرضتها القوى المدعومة روسياً ممثلة بالفيلق الثامن بالتعاون مع الشرطة العسكرية الروسية التي وصلت من قاعدة حميميم الموسّعة إلى مدينة درعا في الجنوب السوري للتفاوض مع أهلها. ففي اليوم التالي لمحادثات عبد الله/ بوتين، توصلت الأطراف المعنية إلى اتفاق أدى إلى انفراج موضعي في حدّة الاحتقان الميداني هناك، وساهم في حقن دماء السوريين بشكل مؤقت، ومنع هجوماً من جيش النظام السوري المعزّز بالميليشيات الإيرانية على درعا البلد التي تحاصر ما يقارب 50 ألف مدني هناك منذ شهرين ونيِّف.
هكذا تمضي روسيا بتصميم بليغ دافعة بدورها الضاغط، عسكرياً أو دبلوماسياً، في أنحاء الشرق الأوسط ودوله العربية وغير العربية. فروسيا التي لم تغلق سفارتها في كابول إثر سيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية، أسرعت بالتواصل مع أنقرة من أجل فتح مسار للمحادثات مع زعماء الحركة بعد سيطرتهم الكاملة على عموم أفغانستان. الغاية الروسية واضحة وهي ملأ الفراغ الذي خلّفه الانسحاب الأمريكي من البلاد.
أما على صعيد محاولة إبراز تفوّقها العسكري في تحالفاتها بالمنطقة الأكثر حساسية واشتعالاً في العالم، فقد ذكرت تقارير إعلامية أن روسيا قد تجري مناورات عسكرية مشتركة مع الصين وإيران في وقت لاحق من هذا العام أو في عام 2022. ومن المتوقع أن تشارك دول مثل الهند وسوريا وفنزويلا في المناورات.
وبينما أعلن السفير الروسي في طهران أن تدريبات الدول الثلاث المرتقبة ستركز على الأمن البحري ومكافحة القرصنة، قامت موسكو بجهد دبلوماسي بيّن لدعم طلب إيران في الانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون التي يُنظر إليها على أنها بيضة القبّان التي تحقق توازناً روسياً- صينياً في مواطن الفراغ التي يخلّفها تراجع الحضور والنفوذ الأمريكيين في المنطقة.
أذرع روسيا تداعب أيضاً حضن الخليج العربي الذي تنعم دوله، بمعزل عن دول الشرق الأوسط الأخرى، بحالة من البحبوحة المادية والاستقرار النسبي والتقدّم المطرد مدعوماً بعمليات التنمية المستدامة. وفي هذا السياق أجرى مؤخراً نائب وزير الدفاع الروسي، ألكسندر فومين، محادثات مع نظيره الإماراتي، الجابري مبارك سعيد، سعياً لترتيب أجواء التعاون المتعدد الأوجه بين البلدين.
فروسيا تستهدف تمكين علاقاتها مع دولة الإمارات التي أنجزت عملية تطبيع كامل مع إسرائيل ضِمن اتفاقية "أبراهام"، وذلك في نهاية عهد الرئيس الأمريكي الأسبق ترامب العام 2020 وبرعايته الكاملة.
تعتبر موسكو تلك الاتفاقية بمثابة المفتاح السياسي الذهبي لأوجه التعاون والتكامل التي يمكن أن تنسجها ضمن مثلث (الإمارات – إسرائيل – روسيا) نظراً للعلاقات الودّية التي تربطها مع تل أبيب، وهي علاقات ليست سياسية مرحلية وحسب بل تاريخية أيضاً. فاليهود الذين هاجروا من الاتحاد السوفييتي السابق ساهموا بشكل كبير في نهضة إسرائيل، وهم يشكلون اليوم همزة وصل بين مسقط رأسهم روسيا الاتحادية ووطنهم الجديد المختار.
فصل المقال يكمن في ضرورة تقدير طبيعة وقوة خيوط الشبكة المترامية الأطراف والمرامي التي تنسجها موسكو في الشرق الأوسط، وتضعها حيناً على نار ساخنة كما الحال في سورية وأحياناً على نار دبلوماسية هادئة كما تفعل في إيران والصين وأفغانستان.
تلك الشبكة المعقدة والمتغايرة المستويات والأدوات ستشكل قاعدة جيوسياسية جديدة في القرن الحادي والعشرين، وحدها موسكو من يرسم خرائطها السياسية بما يتماشى مع مصالحها التوسعية العليا من جهة، وطموح حليفتها الصين (العدو الأمريكي الأول) من أخرى، وذلك في المواضع التي تلتقي عندها المصالح الروسية والصينية كافة. أما آليات تنفيذ تلك التقاطعات فتندرج ضِمن خطط محكمة لإشغال الأمكنة التي تخلّفها الولايات المتحدة وهي تغادر حرائق الشرق الأوسط وتترك لأولياء الدم وشركائهم الجدد التعامل مع دخانه الأسود المتعاظم الذي يكاد يسدّ الأفق تماماً في المنطقة.