لم تَغِبْ جَدَلِيَّة عقيدة "الترامبية" السياسية التي أسَّس لها الرئيس الأسبق، دونالد ترامب، عن الشارع السياسي الأميركي والدوائر الرسمية في واشنطن.
ويبدو ترامب إثر خروجه من البيت الأبيض مهزوماً أمام خصمه الديمقراطي الرئيس الحالي، جو بايدن، عازماً على العودة ليس فقط إلى الدوائر السياسية بل المالية والإعلامية أيضاً.
فها هو يعلن اليوم أنه سيعود إلى سوق المال الأميركي والعالمي (Wall Street) بعد تاريخ من الإفلاسات المتوالية التي كانت تعلنها شركاته التجارية الضخمة كلما تعثّرت مالياً، الأمر الذي وضع إمبراطوريته للأعمال والبناء في موضع من عدم الثقة والملاحقات القضائية.
وصرّحت مجموعة ترامب للإعلام والتكنولوجيا التي يرأسها الرئيس السابق أنها ستُطلق منصة للتواصل الاجتماعي ولها تطبيق خاص يحمل اسم (Truth).
وقد وعد ترامب بأن هذه المنصة الجديدة ستقف في وجه استبداد شركات التكنولوجيا الكبرى، وجميعنا يعلم أن منصات "تويتر" و"فيسبوك" و"إنستغرام" قد حظرت حساباته الشخصية بشكل نهائي إثر الهجوم الذي شنّه أنصاره على مبنى "الكابيتول" لمنع التصديق على رئاسة منافسه بايدن في ذلك الوقت.
منصة ترامب الجديدة والمستقلة عن وسائط التواصل الاجتماعي التقليدية ستنطلق بصورة تجريبية في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، على أن تكون انطلاقتها العامة المتاحة للجميع في الربع الأول من عام 2022. أما تمويل هذه المنصة فسيتم عَبْر أسهُم شركات ترامب التي ستُطرح للتداول في سوق المال الأميركي بالشراكة مع مؤسسات خاصة تُقدِّم شيكات مفتوحة للتعاملات المالية بغض النظر عن تاريخ العميل المالي.
وفي استطلاعات الرأي العامّ التي درج عليها الأميركيون في سعيهم لتقييم أداء رئيسهم في الشهور الأولى من حكمه، أظهرت الأرقام تراجُعاً ملحوظاً في شعبية الرئيس بايدن بما يعادل عشر نقاط عما كانت عليه في شهر آذار/ مارس الفائت.
ويُعتبر انخفاض كهذا أمراً مُقلِقاً لمستوى قَبول الشارع ورضاه عن أداء الرئيس، وبخاصة لأنه سُجّل خلال فترة زمنية قصيرة منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض، ما يفتح الأبواب من جديد على أوسعها لظهور قوي لمنافسه، سابقاً ومستقبلاً، الرئيس ترامب.
من نافلة القول أن التراجع الشديد في شعبية بايدن يرتبط بشكل مباشر بالأحداث التي رافقت الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وبموجة الغضب التي أثارتها الصور الحية التي كانت تبثها وسائل الإعلام الأميركية مباشرة للانسحاب المخزي الذي شكّل فاصلاً تاريخياً قاتماً في سجلّ السياسة الخارجية الأميركية، وخصوصاً في إستراتيجياتها التي تضعها للتعامل مع أنظمة سياسية هشّة تعاني من غياب سلطة الدولة، هذا الغياب الذي يهيئ فراغاً ملائماً لنشاط خلايا وتنظيمات الإرهاب والتطرّف.
عاملان آخران يضافان إلى عوامل الاستياء العامّ من أداء بايدن وإدارته، أولهما يتمثّل في عدم تمكُّنه من السيطرة على وباء "كوفيد 19" بالشكل الأمثل الذي وعد به وأسَّس على وعوده تلك حملتَه الانتخابية، بل هو هاجم باستمرار ترامب وإدارته على فشلهما في إدارة الأزمة الصحية التي سببها ذاك الوباء.
أما العامل الآخر لتراجُع شعبية بايدن فيتعلق باقتصاد البلد غير المستقر ومؤشرات النمو غير المُطَمْئِنة، تلك التي ارتبطت بشكل مباشر باستمرار الوباء في الانتشار وعدم القدرة على حصاره أو إقناع جميع الأميركيين بتلقي اللقاح.
ولعل أبرز المفارقات السياسية بين بايدن وترامب تكمن في افتقار الأخير للدعم الحزبي وحماس أترابه الديمقراطيين كما الحال لدى ترامب. فتأييد الجمهوريين لترامب لم يتراجع البتَّةَ، بل إنه تقدَّم بشكل لافت منذ خروجه من البيت الأبيض، حيث يُعتبر الآن المرشَّح المفضَّل للحزب الجمهوري لخوض انتخابات الرئاسة القادمة في عام 2024.
وقد ساعد الإعلام اليميني في إغناء صورة ترامب باستمرار وتصويره على أنه الوجه السياسي الأكثر نفوذاً وقوةً وقدرةً على المناورة بين قاعدة المحافظين.
وإذا ما تقدّم الجمهوريون في الانتخابات النصفية القادمة في عام 2022 واستعادوا ما خسروه من مقاعد في مجلسَي النواب والشيوخ ليشكلوا من جديد الأغلبية في المجلسين أو أحدهما، فعندها سيكون الطريق مُعبَّداً تماماً لترشيح ترامب لتمثيل الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة المقبلة، وسيكون عليه أن يكون حاذقاً في اختيار نائب له في الحملة يُقنِع به جمهوره المحافظ وجمهور الليبراليين من اليسار الأميركي في آنٍ.
أما "واشنطن بوست" -وهي الجريدة التي تمثل رأي اليسار الأميركي بامتياز- فقد أشارت إلى أن الأميركيين الأفارقة في ولاية جورجيا، وهم في حقيقة الأمر مَن أوصلوا الرئيس بايدن إلى سُدَّة البيت الأبيض ومكَّنوا الديمقراطيين من الفوز بالأغلبية النيابية وذلك من خلال حملاتهم التطوعية الداعمة التي كانت تتنقل من بيت إلى بيت وتدقّ أبواب المنازل لتُقنِع كل مواطن على حِدَةٍ بالتصويت للديمقراطيين، هؤلاء بدأ صبرهم ينفد من تباطُؤ أداء الرئيس بايدن وإدارته في تنفيذ وُعوده الانتخابية، ولاسيما فيما يتعلق بالضمان الصحي المجاني لمحدودي الدخل. وفي مُقابَلة أجرتها الجريدة مع دابليو روبنسون وهو مؤسِّس مشروع الناخب الأسود (Black Male Voter Project) قال:"نحن غاضبون وقد بدأ صبرنا ينفد من العَدَمِيَّة (Nothingness) التي تشوب الأداء الحكومي"، وتابع: "هذا الأمر يجعل عملنا صعباً بل شِبه مستحيل".