حَفَلَ القرنُ الحادي والعشرون في ربعه الأول بالأحداث العالمية الفارقة التي سجّلت تغيُّراتٍ وانقلاباتٍ كبرى في المزاج والنظام الدولييْنِ في آنٍ، وعلى أصعدة عدّة.
ولعل من أبرز تلك الأحداث مغادرةَ بريطانيا لمنظومة الاتحاد الأوروبي Brexit)) ، الحدث الجلل الذي بشّر بعودة قوية للتاج البريطاني إلى تجديد شراكته التاريخية المرتبطة بالدم المختلِط والمصالح العميقة المشتركة مع الولايات المتحدة الأميركية، شعباً ودولة، ومنذ إعلان استقلالها في عام 1776.
في سياق المشهد الغربي الجديد برز تكتّل عابر للبحار يحمل جينات العصر الذهبي للتاج البريطاني وإمبراطوريته التي تشرق شمسها دون غياب، وذلك مع إعلان وزارة الخارجية الأميركية مؤخراً عن انطلاق حلف ثلاثي الرؤوس أبرمه قادة أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية.
جاء هذا الحلف بين الدول الكبرى الثلاث على هيئة شراكة أمنية حملت اسم أوكوس AUKUS)) وهو اختصار للأحرف الأول من أسماء تلك الدولة مجتمعة. أما الهدف من هذه الشراكة كما جاء في البيان فهو “تعميق التعاون الدبلوماسي والأمني والدفاعي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ عن طريق العمل مع الشركاء لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين”.
يعتزم الحلف التركيز ضِمن مشاريعه التشاركية الأولية على الفعاليات السيبرانية والذكاء الاصطناعي وتقنيات الكمّ والقدرات تحت سطح البحر وكان من اللافت أن الحلف الإستراتيجي الجديد لم يأتِ خالي الوفاض، بل كان محمّلاً بمشروع ضخم يعزّز أهدافه الطويلة الأمد التي ستعمل على تعزيز تبادُل المعلومات والتكنولوجيا وتعميق التكامل بين أطراف مثلثه في العلوم ذات الصلة بالأمن والدفاع والتقانة العسكرية والقواعد الصناعية والقدرات الأمنية والدفاعية.
فقد أعلن البيان الرسمي للحلف عن إطلاقه لمشروع مشترك جاء على هيئة مبادرة لتعزيز موقع أستراليا ضِمن خارطة العالم العسكرية من خلال تمكين القوات البحرية الملكية الأسترالية من اقتناء غواصات تعمل على طاقة الدفع النووي. وتعهدت كل من الولايات المتحدة والمملكة البريطانية بتوفير الخبرات اللازمة لبناء تلك الغواصات وتسليمها لأستراليا في أقرب تاريخ ممكن لتكون رافعة قوية لإمكاناتها الدفاعية.
بالمقابل، ستتعهد أستراليا بالالتزام بأعلى معايير الضمانات والشفافية والتحقق وتدابير المحاسبة لضمان عدم انتشار المواد والتكنولوجيا النووية. كما ستبقى أستراليا ملتزمة بالوفاء بكافة التزاماتها كدولة غير حائزة على الأسلحة النووية، بما في ذلك التزاماتها تجاه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، علماً أن تلك الغواصات لا تحمل سلاحاً نووياً لكنها تسير وتعمل بالدفع النووي حصراً.
أما الرؤية السياسية التي جمعت دول أوكوس الثلاث فتندرج ضِمن مساعي الدول المعنية في الحفاظ على السلام والاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ناهيك عن الشراكة التي تعود إلى قرن من الزمن بين أستراليا من طرف، والمملكة المتحدة من آخر، وقد سبق أن عملت الدولتان إلى جانب شركاء مهمين في العالم “لحماية القِيَم المشتركة وتعزيز الأمن والازدهار” كما ختم بيان الخارجية الأميركية.
الإعلان عن “أوكوس” وصفقتها العسكرية مع أستراليا أثارَا عاصفة قوية في فرنسا التي كانت ترتبط مع الحكومة الأسترالية بعقد ضخم أبرمته في عام 2016 لبناء الغواصات التي تحتاجها القوات الملكية الأسترالية. وقد كانت أُولى ثمار “أوكوس” الإطاحة بتلك الصفقة المبرمة بين كانبيرا وباريس لشراء غواصات فرنسية الصنع، وتم استبدالها بأخرى أميركية.
رأت فرنسا أن أستراليا وجَّهت لها “طعنة في الظهر”، وأن الرئيس الأميركي جو بايدن قد اتخذ قراراً مباغتاً وصادماً على طريقة سلفه دونالد ترامب، وهو الأسلوب الذي كان بايدن نفسه يستهجنه ويلوم ترامب عليه.
إلا أن الأمر بالنسبة لرئيس وزراء أستراليا، سكوت موريسون، هو أكثر تعقيداً من مجرد تبديل مصادر الصفقة. إنه بمثابة ردّ فعل مباشر على تحركات الصين المثيرة للقلق في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، واستجابة لمطامع الصين وتجاوُزاتها العدوانية والتنمّر التجاري على دول الجوار.
أما بالنسبة لواشنطن التي انسحبت من مواقع عديدة من العالم لتركّز جهودها على الخطر الداهم القادم من أقصى الشرق، والذي يبشّر به الصعود العسكري والتكنولوجي غير البريء للصين، فسيكون حلف “أوكوس” الجديد مجرد نواة لتكتُّل عالمي أوسع ستدعم الولايات المتحدة تشكيله بهدف الوقوف في وجه التمدد الإقليمي لبكين في بحر الصين الجنوبي، والذي يشكّل أحد أوجه النزاعات المتعددة الأبعاد بين بكين وواشنطن.
الإعلان المدوي عن صفقة الغواصات تلك جاء قُبيل وقت قصير من اللقاء المرتقب لقادة أستراليا والهند واليابان في قمة رباعية يستضيفها الرئيس بايدن في البيت الأبيض بهدف تعزيز حلف “أوكوس” وتوسيع دوائره التي من شأنها أن تشكّل رادعاً أميركياً حاسماً ومُعزَّزاً بحلفاء كبار هم من المتضررين أيضاً من تغوُّل الصين على مرافق التجارة والمال وأمن اليابسة والبحار.
أما التقاطع بين سياسة “الحرب بالقفازات البيض” التي ستعتمدها واشنطن في مواجهتها المرتقبة مع الصين، وبين تكنولوجيا غواصاتها المتقدمة التي ستتمكن من الصوَلان والجوَلان في المياه المشاطئة للصين مغمورة بالمياه فقط دون أن تضطر للغوص في أعماق البحر خشية تعرُّضها للانكشاف من راصدات العدو القابع في بكين، فهي شأن آخر من شؤون وشجون إدارة بايدن التي تنبني عقيدتها على العمل الدبلوماسي الطويل الأمد والنظيف اليد دونما الحاجة إلى الغرق في دوامات الحروب المباشرة المكلفة.