لقد أبدع الفيلسوف البوسني علي عزت بيجوفيتش في كتبه "الإسلام بين الشرق والغرب" عندما طرح القضية الجَدَليَّة العميقة "من هو الإنسان؟" معتبراً إياها القضية المقدَّمة والجوهرية السابقة على سؤال كيف يعيش الإنسان؟
حيث لا يمكننا أن نتفق كيف على الإنسان أن يعيش ويحيا وكيف للعلاقات الإنسانية أن تصاغ إذا لم نقف على كُنه وماهِيَّة هذا الإنسان…. إن الإنسان في فلسفة بيجوفيتش ليس إنسان دارون الذي جاء بعملية بيولوجية محضة وأخذ شكله نتيجة للانتخاب الطبيعي، وعلاقته بالطبيعة والإنسان مرهونة بحتمية الصراع من أجل البقاء وماهِيَّته المتولدة من المادة المحضة وهو في جوهره حيوان متقدم على باقي الحيوانات بالرتبة لا بالجوهر، وما العواطف والمشاعر فيه إلا بتأثير من الهرمونات، وإن القوانين التي يخضع لها الإنسان هي القوانين الطبيعية المادية التي تحكم العناصر الطبيعية في الفيزياء والكيمياء وهُوِيَّة الإنسان ما هي إلا نتاج الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تحدد وَعْيه بحسب المادية التاريخية، ومآله هو تحلُّل ذراته في الطبيعة ليعاد إنتاجها من جديد في دورة طبيعة متجددة، وكل النشاط الإنساني ما هو إلا مجموعة من الوظائف البيولوجية الحيوية، ليس هناك في الإنسان أي جزء متجاوز للمادة ولا تطلَّع للسمو الروحي والمطلق والخلود ولا يحمل في جوهر وجوده أي معنى ولا حقيقة ولا غاية يعيش من أجلها.
نستذكر فلسفة بيجوفيتش في عالم باتت تكثر فيه اليوم الاحتفالات الكرنفالية والخطب المنافقة وهي تتحدث عن الإنسان " الطبيعي" وحقوقه "الطبيعية" والواقع أن هناك حالة وعلاقة مطّردة بين تضخُّم عمل هذه المنظمات الدولية التي تُعنى بحقوق الإنسان وبين كمية الانتهاكات والجرائم التي تُرتكب ضد هذا الإنسان وباتت ملفات الانتهاكات بحق الإنسان هي بضاعة مُزْجاة تُطرح في بازارات الابتزاز السياسي، فتظهر أحياناً لابتزاز هذه الدولة وذلك النظام عندما تتعارض المصالح الاقتصادية أو السياسية وتعود للأدراج والرفوف عندما تُمَرَّر المصالح ويخضع المجرم لشروط الدول المتاجرة بحقوق الإنسان.
ولم يتوقف الاعتداء الصارخ على حقوق الإنسان الطبيعية والمادية في حق الحياة والأمن وحرية التعبير والمعتقد وإنما بدأت الحرب الشاملة على هوية الإنسان ومعناه ككائن مُرتَقٍ في الجوهر والماهِيَّة على الحيوان تشنها اليوم فلسفة ما بعد الحداثة التي تنسف القيم والنظم والمطلقات والثوابت لتقذف بهذا الإنسان في العراء البارد لا يأوي إلى يقين يشفي منه غَليل الأسئلة الوجودية ولا يلتزم بخُلق يمليه عليه إله ولا تحكمه أية سلطة أو نظام إلا ما تمليه عليه شهوته وغرائزه التي يهيجها طغيان الصورة والإثارة وتغدو العلاقة بينه وبين أخيه الإنسان مرهونةً بالتسويات المؤقتة والهشة التي تضمن فيها السلامة المادية للأطراف الداخلين في هذه التسوية لكن هذه التسويات عرضة للنقض مع أول سبب يدعو هذا الإنسان العدمي لنقضها عندما تستيقظ وحشيته الساكنة من فرط الإشباع.
إذا كانت العلاقة بين البشر خاضعة للداروينية الاجتماعية والصراع من أجل البقاء والإنسان مجرد كيان مادي يخضع في سلوكه واختياراته لتأثير السياقات الاجتماعية والمادية والهرمونية وليس له حرية التصرف الذاتية كما في فلسفة ما بعد الحداثة وإذا كانت الثوابت الأخلاقية هي من صنع السلطة بحسب العَدَميَّة النِّتْشَاوية وفلسفة السيولة وإذا كانت حتى اللغة تحمل معانيها من قسر السلطة كما في تفكيكية فوكو، فمن الطبيعي جداً أن يتحول الإنسان إلى وحش قاتل ومن الطبيعي جداً أن يتفرج هذا النوع من الإنسان على البراميل المتفجرة وهي تسقط على رؤوس أطفال سورية دون أن يُحرِّك ساكناً بوازع من خلق أو دين أو ضمير، فمواقف الصامت متسقة مع كينونة الإنسان المادية ومع فكرة الصراع والعَدَميَّة حيث يعيش الإنسان لفردانيته بلا قيمة تربطه بالإخاء الإنساني وبلا معنى بدفعه للتضحية ودفع مغرم الوقوف مع الحق حيث إن الحق نفسه صار بلا معيار ولا ضابط وبلا غاية سامية إلا غاية التلذذ والنهم ولا حقيقة مطلقة حيث كل شيء معرض للشك.
إن فلسفة ما بعد الحداثة السائلة في تمييع الثوابت والمطلقات والكامنة أصلاً في فلسفة الحداثة نفسها التي حلت عُرَى الأخلاق من قِبلها عندما أخضعتها الأخيرة للنسبية والبراغماتية فانبثقت منها الفلسفة العَدَميَّة التي أحالت الإطار المرجعي للإنسان في علاقته ومواقفه وسلوكه على الشهوة والغريزة، وطالما أن حب السيطرة والسعي للمتعة الشخصية لا يمر إلا على جثث الأبرياء فلا مانع من ذلك طالما أنه لا حرام وما من معيار لتحديد ما هو جريمة وما هو ليس بجريمة.
لقد برر الفيلسوف الألماني هيجل كل الحروب والمآسي والقتل والتدمير في فلسفته الديالكتيكية عن التاريخ معتبراً أنها المخاض والألم الذي لا بد منه ليتقدم التاريخ ويتطور نحو الفكرة المطلقة والسعادة الأبدية، وهي نفس فكرة الفوضى الخلّاقة التي كان يتكلم بها المحافظون الجدد في أمريكا والتي لا بُدَّ فيها من الحروب والقتل والدمار لخلق الحالة الطبيعية المستقرة للمجتمعات المتصارعة.
لم تثمر أفكار الحداثة -وهي تُقدِّس العقل وترفع من شأنه وتعلن نسبية الأخلاق والحقيقة- إنقاذ البشرية من حربين عالميتين راح ضحيتهما ملايين البشر قُتلوا بأحدث الأسلحة التي اخترعها العقل الحداثي.
ولم تفلح فلسفة ما بعد الحداثة التي جاءت كرد فعل على هذه الحروب في حفظ حقوق الإنسان وحوّلته إلى حِمًى مستباح بلا معنى ولا قيمة يعيش مع أخيه الإنسان بعلاقة غير مستقرة خاضعة للتسويات القسرية مع قلق دائم من الكل… متى تنتهي هذه التسويات؟ كما نشهد اليوم كيف ينتهي النظام العالمي وتحولت حتى العلاقة فيه بين الحلفاء بالأمس إلى مجرد تسويات.
إن فلسفة الحداثة وبناتها من أفكار ما بعد الحداثة السائلة تبكي الإنسان اليوم كالنائحة المُستأجَرة وهي تمشي في جنازة حقوق الإنسان تشيعها إلى مثواها الأخير تمارس النفاق الأخلاقي بعينه فهي التي بإعلانها عن موت الإله وصياغة العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان على أساس من علاقة الصراع لأجل البقاء وبعد أن أعدمت أمامه كل الحقائق والثوابت والمنظومات الأخلاقية والاجتماعية صنعت منه ذاتاً متوحشةً لا يردعها عن القتل والتدمير إلا القتل والتدمير ولا يُثنيها عن الحرب إلا الحرب ثم جاءت لتبكي على حقوق الإنسان المقتول بعد أن صنعت الإنسان القاتل على عينها.
إن قتل الإنسان بمفهومه المادي لم يأتِ إلا بعد أن مارست الفلسفة المادية الأحادية بشِقَّيْها الحداثي وما بعد الحداثي قتلها المعنوي لمعنى الإنسانية وصاغت من الإنسان وحشاً ضارياً يتحرك في غابة ويخضع لقانون الغابة وعندما تصبح قواعد اللعبة هي شريعة الغابة فإنه من المنطقي جداً أنك إن لم تكن ذئباً فستأكلك الذئاب.
من هنا نريد الـتأكيد على نقطة جوهرية فطن لها بيجوفيتش في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" وهي أن معالجة حقوق الإنسان بمنظومة قانونية خاضعة لمنطق التسويات بدون حل فلسفي وأخلاقي يعيد للإنسان تعريف ذاته الضائعة وينتشله من العَدَميَّة المظلمة والمادية المُقلِقة فإن تعاطُفنا مع الضحية سيبقى نوعاً من العَبَثيَّة والنفاق طالما بقينا نصوغ الإنسان وحشاً مُستأنَساً لا يخضع لأي قيمة أو معنى.