من المعروف أن حزب العمال الكردستاني، تأسس في نهاية عام 1978 كتنظيم ماركسي متشدد يقف على يسار القوى اليسارية القائمة آنذاك (ممثلاً بالحزب الشيوعي السوفييتي وملحقاته من منظومة الأحزاب الشيوعية العالمية(الكومنترون)، وذلك أسوة بظهور حركات يسارية متشددة مشابهة في عدة بلدان شرق أوسطية منها تركيا (طريق اليسار) وسورية (رابطة العمل الشيوعي) ولبنان (حزب العمل الشيوعي)، وجميعها كانت تعتمد على الفكر الماركسي الستاليني المتشدد في الطرح تجاه الغرب (الإمبريالي) وتنتقد الاتحاد السوفييتي والأحزاب الشيوعية الموالية لها متهماً إياها بالترهل ومسايرة الغرب الرأسمالي.
كما أن البعض منها قد تبنت الكفاح المسلح ضد النظم القائمة مستفيدة من مناخ الحرب الباردة بين الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي، ومن بينهم حزب "العمال الكردستاني"، الذي رفع شعار تحرير وتوحيد كردستان بأجزائها الأربعة، وبأنه لا يوجد سبيل لتحقيق ذلك سوى الكفاح المسلح، على أن تكون ساحة العمل العسكري هي كردستان تركيا، لأنها الساحة الأكثر مساحةً وسكاناً وذات تضاريس جغرافية وعرة ملائمة لحرب العصابات، إضافة إلى أنها دولة تابعة للمنظومة الامبريالية (الناتو)، ومن الممكن تلقي الدعم المطلوب من منظومة الدول الاشتراكية(حلف وارسو) وحلفائه، أسوة بالعديد من حركات التحرر في العالم، ولم يمض عام على التأسيس حتى غادر زعيم الحزب عبدالله أوجلان إلى سورية، حيث تم التنسيق مع النظام السوري لمساعدته في تهيئة عوامل النهوض المسلح، وعليه فقد اوعز النظام إلى حليفه الموثوق به زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (القيادةالعامة) أحمد جبريل بالقيام بالمهمة وتقديم كل التسهيلات اللازمة له، وهكذا تم إفتتاح معسكر تدريبي في البقاع اللبناني.
ولم تمض خمس سنوات على خروجه من تركيا حتى أعلن الكفاح المسلح ضد تركيا رسمياً في آب/ أغسطس 1984، وقد ساعد الحزب في نشاطه العسكري والسياسي كثيراً ثلاثة عوامل أساسية:
الأول: الانقلاب العسكري الذي حصل في تركيا 1980 بقيادة الجنرال كنعان إيفرين، الذي مارس القمع العاري بحق جميع القوى السياسية الديمقراطية في تركيا وزجهم في السجون، وكان نصيب القوى السياسية الكردية الموجودة آنذاك أكثر ايلاماً وبشاعة لدرجة منع على الكرد التحدث باللغة الكردية مع بعضهم حتى في الشوارع، مما دفع والوضع إلى هروب الآلاف من النشطاء السياسيين والشباب إلى خارج البلد وهم يحملون معهم ذكريات مؤلمة على ما تعرضوا له وما تتعرض له البقية الباقية من قمع و تنكيل، مما خلق والحالة هذه مناخاً ملائماً لاستقطاب الآلاف من هؤلاء الشباب في صفوفه والانضمام إلى معسكر التدريب.
والعامل الثاني: الشعار الذي رفعه الحزب والذي دغدغ به عواطف وأحلام الجيل الجديد من الشباب في الحرية والاستقلال، كما أفسح النظام السوري المجال كثيراً للحزب بحرية الحركة داخل المجتمع الكردي السوري، مقابل مزيد من الضغط على الحركة الكردية السورية ودفعه بإتجاه التعامل مع pkk أو الانضمام إليه، ذلك من خلال ممارسة خطاب صريح بأنه لاتوجد قضية كردية في سورية، ونحن ندعم حقوق الكرد في تركيا والعراق بكل قوة، ومقرات أحزابهم مفتوحة في سورية ومرحب بهم.
وهكذا تغلغل pkk في عمق المجتمع الكردي السوري وخاصة بين طلبة الجامعات والطبقات الفقيرة، ونتيجة لذلك فقط استقطب الحزب عشرات الآلاف من الشباب الكرد السوريين، وقدم الآلاف منهم حياتهم في ساحات القتال في تركيا.
العامل الثالث: حصل ما كان متوقعاً، بأن جميع الدول التي لها مشاكل سياسية أو حدودية أو ايديولجية مع تركيا قد بدأت بدعم pkk، كل من زاويته، وهكذا توسعت دائرة نشاطهم العلني، خاصة في اليونان وأرمينيا ودول الاتحاد السوفييتي سابقاً، وتم التواصل مع الجاليات الكردية فيها وفي أوروبا أيضاً، وهكذا فقد اكتسب pkk خلال سنوات قليلة انتشاراً كبيراً في الأجزاء الأربعة من كردستان وفي الاتحاد السوفيتي وأوروبا، ودارت رحى معارك طاحنة مع الجيش التركي، وتوسعت رقعتها لتشمل جميع المناطق ذات الأغلبيةالكردية، وعلى إثرها تم تدمير أكثر من 4000 قرية وتهجير أكثر من ثمانية ملايين من سكانها الكرد إلى الداخل التركي هرباً من المعارك، إضافة إلى فقدان أكثر من 50 ألف شخص حياتهم من الطرفين جراء المعارك الدائرة بقوة، آنذاك .
لكن ثلاثة عوامل أساسية أخرى دخلت على المشهد السياسي الإقليمي والدولي والداخلي، أثرت سلباً على حركة الحزب وحدَّت من نشاطه العسكري في تركيا، حتى تلاشى اليوم كل نشاط عسكري له في تركيا.
العامل الأول: انهيار الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو في بداية التسعينات والتي انتهت معها حقبة الحرب الباردة وفقدت كل القوى التي كانت تعتمد على المنظومة الاشتراكية ظهير لها، وأصبح العالم يدار بقطب واحد (أمريكا وحلف الناتو)، وبالتالي أصبحت تركيا في موقع الأقوى دولياً كونها عضوا رئيسياً في الناتو ويتلقى الدعم العسكري المطلوب لمواجهة pkk.
العامل الثاني: تصنيف الاتحاد الأوربي وأمريكا لـ pkk كمنظمة إرهابية نتيجة الممارسات العنفية في أوروبا من قبل أنصاره، وبذلك فقد الكثير من تحركه ودعمه المطلوب في الساحة الأوربية.
العامل الثالث: وهو الأهم حين تم الضغط من قبل تركيا على النظام السوري بطرد أوجلان من سورية وإلا ستتدخل عسكرياً، وعليه فقد رضخ النظام للشروط التركية وتم إبعاده من سورية ثم اعتقاله في نيروبي في شباط 1999، وما ترافق ذلك من إعلان اوجلان صراحة التخلي عن المطالبة بالدولة الكردية أو الانفصال والاستعاضة عنها بنظرية فلسفية جديدة لاتطبيقات لها على أرض الواقع وهو الدعوة للمجتمع الإيكولوجي والأمة الديمقراطية وأخوة الشعوب وكونفدرالية شعوب الشرق الأوسط.. إلخ ونبذ فكرة الدولة القومية.
وهذه المطالب جلها تدخل في صلب اهتمامات النشاط الفكري والمجتمع المدني ولايحتاج بتاتاً إلى كفاح مسلح لتحقيقه، لذلك فإن من مصلحة الشعب الكردي في تركيا هي التخلي عن السلاح ودعم القوى الديمقراطية فيها وخاصة حاملها السياسي حزب الشعوب الديمقراطي HDP الذي يشارك الآن في البرلمان التركي بـ67 نائباً، كما أن تخلي pkk عن السلاح يوفر المشاكل المستمرة مع إقليم كردستان العراق ويحقق التنمية الاستقرار فيه، إضافة إلى افساح المجال لحزب الاتحاد الديمقراطي في سورية للتعاطي بحرية وأريحية مع القوى السياسية العربية والكردية لتحقيق التوافقات المطلوبة سورياً بعيداً عن هيمنة pkk، ونفس الأمر سوف ينسحب إيجابياً على وضع الكرد في إيران أيضا.
والسؤال هل يملك pkk الإرادة والجرأة لتحقيق ذلك لما فيه مصلحة شعوب المنطقة عموماً والشعب الكردي خصوصاً؟