هناك مَن أطلق قولاً قَطْعِيّاً باستحالة إعادة تأهيل أو تكرير منظومة كهذه فعلت بسورية ما فعلت مُستنِداً على جملة من الحقائق والوقائع، التي تحول دون عودتها أو استمرارها. مؤشرات ذلك وأدلته كثيرة؛ وسآتي على ذكرها لاحقاً؛ ولكن من باب التحليل، واستناداً إلى غرابة هذا العالم الذي نعيش فيه، لنسلّط الأضواء على ما سيكون عليه مسلكها، إن وقع المستحيل. وهو بذاته ربما يُدلِّل على استحالة إعادة تكريرها.
بدايةً، لقد تحوّلت سورية ليس إلى ساحة حرب -كما يظهر- وإنما إلى مشهد لجريمة يتم ارتكابها بشكل متواصل لعَقْد من الزمن تحت أنظار العالم. "سورية الأسد"، التي نعرف، انتهت منذ أول صرخة حرية كسرت هيبة مَن لم يتجرأ سوريٌّ على مُواجَهته حتى سراً.
بلد لا قرار ولا سيادة فيه لمَن يدعي حكمه؛ فهناك قُوًى لا حصر لها تتقاسم كل سيادة أو وَحْدَة أو مَنَعَة للدولة. أخطر ما فيها هو حُلُم كل مَن فيها تقريباً الخروج منها؛ ولأسباب بادية للعِيان وللعِمْيان.
• السيناريو الأكثر تشاؤماً:
– يتمثل السيناريو الأكثر تشاؤماً بأن تصل حملة "إعادة تأهيل النظام" إلى نتائج مثمرة لأصحابها؛ أي أن ينجح تسويق ما تشيعه أبواق النظام وإيران وحزب الله بأن: "النظام انتصر على الإرهاب" – "لا بديل له بحكم أن مَن يعارضه مُمثِّلون للإرهاب، مرتبطون بالخارج، يقبلون المحتل التركي" – "رفع العقوبات وخاصة حصار قانون قيصر ضرورة" – "الدول الغربية مستفيدة من عودة النظام" – "روسيا بحاجته مثلما هو بحاجتها" – "حليفه إيران صديق وأخ" – "دول الخليج يتزاحمون على أبواب دمشق" – "النظام مقاوم ممانع في وجه إسرائيل وحلفائها وعملائها من المعارضة". تلك هي السَّرْديَّة المستمرة؛ فإن نجحت فسيعود الإجرام بنزعة انتقامية ومزيد من الصَّلَف والعُنْجُهِيَّة واحتقار للشعب السوري والبطش به.
وأهم ما سيفعله على الصعيد الداخلي هو إعادة تطويع الشعب بشكل مطلق، وبناء جدار الخوف الذي تهدَّم.
سيزداد الفقير فقراً، والثَّرِيّ ثَراءً، ويزداد الفساد الأخلاقي والخراب الاجتماعي وتنتشر الأمية بأنواعها؛ وستتغير قناعات الناس ومعاييرهم الأخلاقية والقِيَميَّة؛ ومَن خرج أو اقتُلع من بيته لن يعود إليه.
وعلى الصعيد الإقليمي، ستعود أسطوانة المقاومة والممانعة و"العداء" لإسرائيل، وإقامة تحالُف من الدول العربية التي تتحكم إيران بمصيرها بالاشتراك والتنسيق مع الروس إن رغبوا وإحداث اهتزازات في المحيط السوري؛ "الأردن" تحديداً؛ ودول الخليج العربي ستدخل المرحلة الثانية من السيطرة الإيرانية المطلقة.
تركيا ستتعرض إلى موجات توتُّر تجعلها قابلة للانفجار؛ وسيكون التنسيق مع إسرائيل عميقاً؛ وأمريكا والغرب سيكونون في حالة الاستمتاع بالتوتر وجَنَى الثمار.
من جانب آخر، ومع استشعار إيران أن ذراعها بدأ الدوران في الفراغ؛ والخلايا التي تعتمدها تتهالك؛ وهناك انحسار في قوة مَن تراهن عليهم داخل السلطة الأسدية. فمن غير المُستغرَب أن تجعل مصير الأسد شخصياً يشبه مصير "علي عبدالله صالح" في ليلة قمراء.
ذلك يُخرِّب كل شيء عليها وعلى الجميع، بحيث تصل سورية إلى حالة لا شفاء منها.
• سيناريوهات أقل تشاؤماً:
– هناك مَن لا يرى إمكانية بقاء "النظام" إلا تحت إشراف دولي، يستلزم إخراج إيران وميليشياتها العابرة للحدود تحت اسم "الإرهاب العابر للحدود" ؛ وسيحاول "الحكم الدولي الأممي" إقامة شكل من أشكال الديمقراطية كما كان الأمر خلال الانتداب الفرنسي؛ وسيُترَك له التخلص من العصابات العابرة للحدود؛ وستعيش سورية حياة بليدة خالية من الأمل؛ وسيعيش الأسد تحت تهديد الإحالة إلى محكمة الجنايات الدولية.
– هناك مَن يرى مصير هذه المنظومة كمصير حكومة "مجيب الرحمن" في أفغانستان زمن الاحتلال السوفييتي؛ فنظام الأسد سلَّم أعزَّ ما يملكه السوري، "وطنه"، إلى كل شُذَّاذ الآفاق والانتهازيين في العالم؛ وعلى رأسهم الدبّ الروسي المريض سياسياً وإستراتيجياً، والذي يبحث عن مخرج من تخلُّفه الأخلاقي والحضاري من الباب الأوكراني، وباللعب على حبال المنطقة؛ ولكن هذا الدبّ سيخرج هو ونجيب الرحمن من سورية؛ ولن يفعلوا شيئاً إلا كسب بعض الوقت.
أما المستعمر الثاني الذي سينتهي من جذوره فهو إيران الفارسية الطائفية التي تقوم على حِقْد عنصري وفِئَوِيّ دِيني بغيض مرفوض من كل العالم، فمشروعها الخبيث للتمدُّد -طبعا بمساعدة ومباركة إسرائيلية- بدأ بالانحسار بحكم الخيارات الأصعب بتاريخه. وهذا سيُهَيِّئُ المسار لقيام نظام وطني حقيقي. مُؤدَّاه نهاية سلطة الاستبداد البغيضة، ليتبعها الأمر ذاته في العراق؛ وستكون بداية ولادة شرق أوسط عربي جديد.
– أما السيناريو الأقرب إلى التفاؤل، فيستند إلى استحالة بقاء هذه المنظومة الإجرامية؛ حتى ولو حاربت إسرائيل وأمريكا علناً إلى جانبها؛ لأنَّ بقاءها عكس تطوُّر البشر وعكس منطق التاريخ والثورات من بداية الخليقة والطبيعة؛ فهي سقطت مع أول قطرة دم سورية عام 2011؛ ومن هنا يصعُب تَخَيُّل بقائها حتى في الأحلام؛ وما من مصلحة لأحد -حتى داعميها– في بقائها؛ فما هي إلا جثة تتقاذفها شواطئ المصالح الدولية؛ حيث أضحى بقاؤها ورحيلها سواءً.
– وباختصار؛ حتى إذا بقي النظام فلن يكون كما كان قبل الثورة، فقد كسر السوريون حاجز الخوف، وأصبحت أجهزة النظام مُقلَّمة الأظافر مَثلُومة المَخالب. وهناك مَن يعتقد أن الثورة ستعود إلى الانفجار بطريقة مُغايِرة لما حدث؛ وقد تكون أكثر حِدَّة لعدم إمكانية استمرار الوضع الذي ستحاول تكريسه الدول المحتلة.
وقد تتحول ثورة السوريين الجديدة إلى مقاومة شعبية تستمر حتى إسقاط الجميع بأشكال مختلفة. ثورة أو مقاومة شعبية كهذه ستكون شاملة في كل ربوع سورية بسبب الجوع والفقر والسرقة والفساد والقتل والمخدرات؛ وستنطلق في كل مكان داخلاً وخارجاً.