لفت نظري وأنا أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي افتتاح مطعمٍ في أحد المدن السورية يحمل اسم مسلسل رمضاني شهير، ولمَّا كان الافتتاح ليلاً فقد استطعت أن أرى بوضوح أن الظلام الدامس يعمّ الحي الذي افتُتح فيه المحل فما من بقعة مضيئة سوى أنوار المولدة التي يظهر صوتها بوضوح في تسجيل الفيديو حيث تتسلط الأضواء على بقعة تجتمع فيها العراضة ويتبارز فيها اللاعبون بالسيف كما هو الحال عند افتتاح المحلات التجارية على الطريقة الشامية. لقد كان المشهد أشبه بعرض مسرحي يعمّ فيه المسرح بالظلام وتسلط الأضواء فيه على بقعة واحدة يظهر فيها مَن يلعب الدور شادّاً انتباهَ الجمهور بعيداً عن الظلام الدامس الذي يعمّ المكان.
وعلى وقع العراضة واسم المحل، رحت أسترجع ذكرياتٍ من مسلسلات رمضان وأتساءل في نفسي هل سيشاهد السوريون مسلسلات رمضان بعد اليوم؟ ورغم أننا بعيدون نسبياً عن شهر رمضان المبارك -حيث أكتب هذه المقالة ونحن في الربع الأول من العام الهجري- إلا أنني أعتقد جازماً أن السوريين لن يستطيعوا غالباً مشاهدة مسلسلات رمضان لهذا العام ولأعوامٍ مستقبلية قادمة قد تتعدى عشرين عاماً بنفس الوتيرة التي كانوا قد اعتادوا عليها، وهذا لن ينسحب على مسلسلات رمضان فقط ولكن على كل ما يضيء بيوتهم أو يخفف من وَطْأة رحيل حبيب أو غربة صديق، فبقعة الظلام التي كانت تحيط مكانَ افتتاح المطعم كانت أشبه بنموذجٍ معمَّمٍ على كل البلاد التي نستطيع أن نشاهد صورها عَبْر الأقمار الصناعية ليلاً لنعرف مدى الظلمة التي تضربها مقارنة بأي مكان آخر في محيطها، ورغم أن الأضواء مسلَّطة على بعض اللاعبين في سورية، يكتفي الجمهور بمراقبتهم بملل وكأنه أمام عرضٍ مسرحيٍّ بغيض تافه دُفعوا إلى مشاهدته دفعاً، إلا أن الأمل يحدوهم بأن ينتهي هذا العرض وتشتعل الأضواء وربما هذا الأمر الوحيد الذي يبقيهم على كراسي المسرح.
لقد سقطت بغداد في عام 2003 ودخلت في تجاذُبات سياسية بين حكومات متعددة حاولت أن تقدم للعراق تقدُّماً في ملف الكهرباء إلا أننا -ونحن على أبواب عام 2022 أي بعد أكثر من 18 عاماً- ما تزال فجوة الكهرباء تزيد عما هو متوفر بثلاثة أضعاف، فنحن أمام 7.5 غيغاوات من الإنتاج الفعلي فيما يفوق المطلوب 25 غيغاوات، وأمام تجاذُبات الأطراف الإقليمية والمحلية يتوقع أنه ما من حل قريب لمشاكل الكهرباء العراقية.
وفي حالة لبنان يُعتبر ملف الكهرباء أكثر تعقيداً فالدعم المقدَّم للقطاع منذ تسعينيات القرن الماضي -والذي كلف لبنان دَيْناً كبيراً وصل إلى 90 مليار دولار أمريكي أعلنت الحكومة مطلع 2020 أنها غير قادرة على سداده- لم يفلح في حل الأزمة مما فاقم أزمة لبنان ودفعه إلى كارثة اقتصادية وسياسية عميقة لا يعرف متى تنفرج، وحال الكهرباء في لبنان اليوم لا يخفى على أحد.
يُعَدّ ملف الكهرباء أكثر ملفات الاقتصاد تعقيداً، ليس لأسباب تقنية وحَسْبُ بل لأسباب أمنية وسياسية عديدة، فالنظرة إلى ذلك الممثل على المسرح والأضواء مسلطةٌ عليه تُعَدّ نظرةً في اتجاهٍ واحدٍ إلا أن نظرة أشمل تجعلنا ندرك أن هناك مهندسين للصوت والإضاءة ومديراً للمسرح وكاتباً ومخرجاً ومنتجاً، يجتمعون كلهم في بيئة قد تفرض عليهم شروطاً معينة لأداء عرضهم. أي أن المسألة باختصار لا تتعلق بإدارة قطاع الكهرباء من الشركات المشغلة ولكن تتعلق بعمليات إمداد الطاقة لتشغيل هذه المحطات، وكذلك نوع وكفاءة المولدات الرئيسية وأيضاً طبيعة الشبكة والتوزيع، وفي النهاية عمليات الجباية والإيراد المتحقق من القطاع. في حالة العراق على سبيل المثال تعد البلاد دولة ذات احتياطي كبير من الغاز يكفي احتياجات توليد الكهرباء والتدفئة وتستطيع البلاد التصدير فوقها إلا أننا نجد أن البلاد تستورد الكهرباء والغاز من إيران وتخطط لاستيراد خطوط جديدة من الخليج بعد أن كانت تستورد من تركيا ويعتمد معظم مواطنيها على مشغلي مولدات محلية كبيرة الحجم.
على أرض العراق تتصارع شركتَا "سيمينس" و"أي بي بي" الألمانيتان مع شركة "سي إم إي" البلجيكية وشركة "ألتسوم" الفرنسية وكذلك شركة "أنسدالو" الإيطالية التي كان لها دور في تشغيل إحدى محطات لبنان، إضافة إلى شركات أمريكية أبرزها "جنرال إلكتريك" و"شيفرون" وكلٌّ من هذه الشركات يفوق دخلها السنوي موازنة العراق السنوية وتقف وراءها حكومات بلدانها، كلها تتسابق لتنفيذ محطات توليد الطاقة في البلاد، وكانت الصين قد دخلت على خط المواجهة من خلال عرض تقديم قروض بنكية للعراق لتحسين البنى التحتية، وأمام كل هذا يقف المواطن العراقي متفرجاً يحدوه الأمل أن تنتهي الأزمة في وقت قريب.