ما بين عامي 1996 و2001، أي في فترة سيطرة حركة طالبان على مناطق شاسعة من أفغانستان، منع قائدها الملا عمر رجال البلاد ونساءها من التقاط الصور الشخصية!
الأمر طبيعي، حيث حرم فقهاء الإسلام تصوير (ذوات الأرواح)، وبالتالي كان من الواجب تطبيق التعاليم الدينية بحذافيرها.
لكن الضرورات تبيح المحظورات. إذ لم يمض وقت طويل حتى اصطدم القوم بالقوانين الدولية، والتي تشترط أن يضع المسافر صورته على جواز السفر، فاضطر القائد إلى السماح لاستديوهات التصوير الفوتوغرافي بالعودة إلى العمل، وفق ضوابط قاسية ورقابة شديدة.
هكذا عادت الكاميرات للعمل، وصار بإمكان الأفغان أن يروا وجوههم بعيداً عن المرايا، وخارج صفحات البحيرات العكرة الراكدة، التي كانت تعكس وجوهاً مرتجفة بفعل اهتزاز موجات الماء، لا تشبه أصحابها بقدر ما تصلح كناية عن صورة البلاد التي دمرتها الحروب، والتدخلات الأجنبية، والاحتلالات، والحركات والأحزاب المتصارعة عقائدياً وقومياً، والتي ضبطتها مرحلياً قوة طالبان وعنفها الشديد، تجاه الأعداء الأيديولوجيين، ومنافسيها في المصالح!
كانت الحركة تشبه طفلاً وجد لعبة ثمينة في طريقه، فهرب بها، حتى اعتزل العالم!
فلم تهتم أبداً بتقديم نفسها للآخرين بشكل جيد، لا بل إنها فعلت كل ما يجب فعله كي يكرهها الجميع، وأولهم مواطنيها، وبداية من نساء أفغانستان اللواتي تمت العودة بهن إلى زمن الإماء والجواري، مروراً بأطفالها الذي صاروا مجندين في صفوف فصائلها، وصولاً إلى شبابها الذين صار كل واحد منهم في نظر العالم؛ إما مقاتلاً شرساً لا رحمة في قلبه، أو مزارعاً يستنبت الحشيش ويصدره، وربما هارب من بلده يطلب اللجوء في هذا البلد أو ذاك!
أما العالم الذي شهد تفجير إعدامات الشوارع بإطلاق رصاصة على رأس الضحية، فلم يدرك أي مصيبة ابتلي بها وهو يرى تماثيل باميان ذات القيمة التاريخية الهامة، تُنسف في بيوتها الصخرية، تطبيقاً لتعاليم الدين التي تحرم الأوثان.
وكان عليه أن ينتظر كارثة هجمات أيلول 2001 في الولايات المتحدة، التي نفذها تنظيم القاعدة، كي يحول كراهيته لطالبان وصورتها القميئة إلى حرب مدمرة، أزاحتها مؤقتاً عن الحكم، وأبعدتها عن المدن الرئيسية، ولكنها لم تكف يدها عن الواقع الميداني، طيلة العقدين اللاحقين.
صورة حركة طالبان الرديئة، في فترة حكمها الأولى للبلاد، لم تمنع مقاتليها، ورغم تحريم التصوير إلا للغايات الإدارية، من أن يختلوا في غرف سرية مع مصوريهم، لكي يلتقطوا لأنفسهم صوراً تذكارية، كما يحلو لأي إنسان أن يفعل.
وهكذا سيكتشف المراسل العسكري والصحفي والكاتب الأمريكي جون لي أندرسون (Jon Lee Anderson) بعد الغزو الأمريكي للبلاد كمية من صور هؤلاء، سيقوم بنشرها مع دراسة خاصة بالآثار الدائمة لحكم طالبان لمدينة قندهار.
هذه الصور التي تكسر نمطية صورة المقاتل الطالباني، ستلفت نظر المصور الصحفي الألماني الشهير توماس دورزاك (Thomas Dworzak) حيث سيسعى ورائها.
وفي تفاصيل الحكاية أن دورزاك وأندرسون قاما بزيارة متجر (فوتو شاه)، الذي كان يملكه أفغاني يدعى سعيد كمال، الذي أوضح تفاصيل عن رغبات المقاتلين في جلساتهم أمام الكاميرا، ومن ثم طلبهم تعديلها، وتنميقها لاحقاً على يد المصورين المهرة.
ستنتهي الفتنة بهذه الصور إلى مشروع كتاب صدر في العام 2003، ولكن سبق ذلك محاولة المؤلفين تعقب صور مشابهة لدى استوديوهات أخرى، ستواجه برفض أصحابها بيع ما يملكون للصحفيين الفضوليين، لكن البعض الآخر سيوافق، وحين سيسأل المشتريان الباعة عن أصحاب الصور، الذين يجب الحصول على موافقتهم من أجل نشرها، وفق قواعد احترام حقوق المؤلفين المتبعة، سيجيب هؤلاء: لا حاجة للأمر فأصحابها من المقاتلين ماتوا جميعاً"!
الصورة الحقيقية الفعلية للمقاتل الطالباني، وكما يريد هو أن يظهرها عن نفسه، تقدمها صور الكتاب، فهو وعلى عكس سياسة طالبان، يجمّل نفسه بالألوان، ويلهو بالمسدسات، ويضع يده على كتف صديقه، كما يفعل الريفيون البسطاء في زيارتهم المدينة، أو حين يقفون أمام الكاميرات في الاستوديوهات، وورائهم خلفيات من صور الطبيعة المكررة.
لكن هؤلاء وضمن تكوين واقعهم، ماتوا، كما مات غيرهم، ولهذا ستسعى الحركة وفي مسعاها إلى دمج نفسها في السياق الدولي، إلى جعل هؤلاء أداتها الأساسية.
فعلى هامش ما جرى ويجري الآن في أفغانستان، تداول كثيرون على صفحات التواصل الاجتماعي وعبر تويتر تحديداً، صورة لمقاتل أفغاني، يجلس أمام طاولة، وضع عليها بندقيته M16 وكأساً من شراب لونه أخضر مائل للاصفرار قليلاً، بينما لا تظهر خلفية الصورة أية ملامح للمكان!
حاولت أن أتتبع الصورة لتوثيقها، ومن أجل عدم التورط في التعاطي معها، ثم اكتشاف أنها لا تنتمي للحيز الزمني والسياسي والميداني الراهن، لكن لم أنجح حتى الآن بذلك.
غير أنه، ضمن سياق قراءة توصيفات المهنئين العرب ومنهم السوريين، لحركة طالبان بانتصارها، سيظهر عدم أهمية توثيق تفاصيل الصورة ذاتها، بينما سيبدو من الملح قراءة نمطية الأداء الفكري والسياسي، الذي تعكسه تعليقات "سعيدة" عنها وحولها، من مثل "استراحة المحارب"، أو لقد فتح 18 ولاية أفغانية ويستحق استراحة لشرب الشاي الأخضر"!
اللافت في الصورة أنها جميلة فعلاً، فالمقاتل شابٌ وملامح وجهه فيها من التناسق والألفة الكثير، يعبر عنهما المعلقون بالبهاء والسماحة، ما يؤدي في المحصلة إلى اقتران الشخص بصورة أيقونية ذهنية للمقاتل المسلم، الذي جاء يفتح بلاداً، كي يهدي سكانها إلى دين الحق!
قراءة الصورة وفق تأويل ذهني ديني، مع انتزاعها من الحدث الراهن، حيث لم تحدث معارك كبرى في سياق عودة طالبان إلى الحكم، وأيضاً حرق 27 عاماً من تاريخ الحركة، جاءت دموية في غالبيتها ، ثم الاكتفاء بجعل الصورة مدخلاً للحديث عن يوتوبيا الإمارة الإسلامية العتيدة، يتناسب تماماً مع وجود نوابض "إحيائية" في عقول قادة حركات سياسية إسلامية، ورجال دين، يشغلون مناصب رسمية، في غير دولة عربية، سارعوا إلى تهنئة قادة حركة طالبان بانتصارها، متجاهلين ماضيها، وأيضاً غير ملتفتين إلى الرسائل السياسية، التي يرسلها مثل هذا الفعل إلى دول عظمى تنظر بعين الريبة، لما جرى ويجري في كابول.
الصور التي تقدمها طالبان عن نفسها راهناً تشبه صورة هذا المقاتل، إذ لم يحظ أي مراسل بصور تشيطن أفرادها، لا بل إنهم ظهروا أمام الكثيرين غير عنيفين، وقد كان لافتاً أن بعضهم بعيونهم المكحلة ظهر أمام كلاريسا وورد مراسلة قناة CNN دون رهبة، وتحدثوا عن رغبتهم بالسلام، وبانتهاء الحرب في وطنهم، لكنهم سرعان ما عادوا إلى هتاف تقليدي هو "الموت لأمريكا" رغم ظهورهم بشكل ودود، الأمر الذي أثار استغراب المراسلة!
لكن الأمر الأهم ههنا هو أن الصورة التي ترغب الحركة في نشرها، بالتوازي مع تطميناتها السياسية للأفغان، وللعالم، تصل إلى الجمهور كما تريدها!
لكن الواقع الذي لم ينشأ هكذا فجأة، يكشف فعلياً أن ثمة شيئاً ملفّقاً فيما يجري، قوامه محاولة إخفاء الماضي، أو محاولة حرقه أمام الشاشات، دون طرح ما يؤكد حصول تغيير في جوهر العقيدة، ومنابع ومؤديات السلوك، التي بني عليها المسار السياسي والاجتماعي، المقترن بالإرهاب، وجعل من ملامح الشخصية الأفغانية، ولاسيما منها الثياب واللحية جزءاً من صورة الإرهابيين الجهاديين، الذين قطعوا الرؤوس، واضطهدوا النساء في العراق وسوريا، وفي كل مكان وصلوا إليه!
التغيير لا يأتي بالصور الملفقة، هذا أمر غير قابل للشك، فطرح الصور الناعمة بهذه الكثافة، يساوي تماماً حجبها، وهذا ما حدث في الماضي، وربما يحدث مستقبلاً.