المصدر: وول ستريت جورنال ترجمة: عبدالحميد فحام
لقد أصبح الشرق الأوسط مقبرة للأحلام الأمريكية بتحويل العالم إلى مجال سلمي. فإذا كان عَقْدان من القتال في العراق وأفغانستان قد أثبتا حدود القوة الأمريكية، فإن عَقْدين من صنع السلام الإسرائيلي الفلسطيني قد أظهرَا حدود الدبلوماسية الأمريكية.
لقد حاول أربعة رؤساء، من بيل كلينتون إلى دونالد ترامب، حلّ النزاع وفشلوا فيه بينما الرئيس الخامس، جو بايدن، لا ينوي حتى المحاولة.
لا يمكن لأحد أن يلومه، فقد كان آخِر اتفاق إسرائيلي فلسطيني في 1998 ـ أي قبل 23 سنة.
وقد انتهت المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية الأخيرة (التي توسطتُ فيها كمبعوث خاص لباراك أوباما) بالفشل قبل سبع سنوات.
ثم دخل دونالد ترامب منصبه وأقسم إنه سيفعل ذلك بطريقته. لهذه المهمة، عيّن ثلاثة رجال أعمال ليس لديهم خبرة في دبلوماسية الشرق الأوسط، بمن فيهم صهره. وقد فشلوا أيضاً. سيشير السيد ترامب إلى اتفاقات "أبراهام" بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة باعتبارها نجاحاً له.
لكن هذا الاختراق، رغم أنه مثير للإعجاب، كان بين دول ليست في حالة حرب.
وقد فشلت خطته "المُتقنة" للسلام الإسرائيلي الفلسطيني حتى في الخروج من بوابة الانطلاق.
ومع ذلك، فإن وصف عملية السلام التي طال أمدها في الشرق الأوسط بأنها فشلت، ورفض أي محاولة لإحيائها على أنها مجرد تكرار لتجربة فاشلة، هو إساءة فهم ما كان من المفترض القيام به في المقام الأول. فبدلاً من التخلّي عنها، يحتاج جو بايدن إلى إعادة ابتكارها وفقاً للمفهوم والإستراتيجية التي حددها من أنشأها وهو "هنري كيسنجر."
كانت فكرة عملية سلام عربية إسرائيلية بقيادة أمريكية من بنات أفكار كيسنجر بعد حرب يوم الغفران عام 1973.
ففي السابق، وكمستشار للأمن القومي لنيكسون كان يعتمد على قوة الردع الإسرائيلية للحفاظ على السلام.
لكن في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من ذلك العام، بعد أسبوعين من أدائه اليمين كوزير للخارجية، بدأت مصر وسورية هجوماً مفاجئاً على إسرائيل، سعياً لاستعادة الأراضي التي احتلّتها إسرائيل في حرب الأيام الستة عام 1967.
انتصرت إسرائيل في النهاية، لكنها عانت من خسائر فادحة.
كما دفعت الولايات المتحدة الثمن عندما فرضت الدول العربية حظراً نفطياً على الغرب رداً على دعم الولايات المتحدة للجهود الحربية الإسرائيلية. وقد نجح كيسنجر في التفاوض على وقف إطلاق النار، ولكن ليس قبل أن تتصاعد التوترات مع الاتحاد السوفيتي لدرجة أن القوات الأمريكية وُضعت في حالة تأهُّب من الدرجة الثالثة (وهي أعلى درجات التأهب).
جعلت الحرب السلام في المنطقة ضرورة. فشرع كيسنجر في جهد دبلوماسي كبير، لكنه لم يسعى إلى إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي.
وبدلاً من ذلك، قرّر تجنُّب العودة إلى الحرب من خلال تعزيز نظام أكثر استقراراً تهيمن عليه الولايات المتحدة في المنطقة. ولهذه الغاية، سعى إلى إخراج مصر -أكبر دولة عربية وأقواها عسكرياً- من الصراع مع إسرائيل. فكان بحاجة أيضاً إلى منح سورية -التي كانت آنذاك الدولة العربية الأكثر تطرّفاً على حدود إسرائيل- حصة في الحفاظ على النظام الذي كان يُنشئه. وكان بحاجة إلى تهميش الاتحاد السوفيتي الذي كان يمُد كِلا البلدين بالسلاح.
طبَّق كيسنجر المبادئ على الشرق الأوسط التي تعلمها من دراسته للنظام الأوروبي في القرن التاسع عشر.
ومن خلال منح فرنسا حصة في الترتيب الذي أسَّسه وزيرَا خارجية بريطانيا العظمى والإمبراطورية النمساوية، كاسلريه وميترنيخ بعد حروب نابليون، خلق ذلك الترتيب توازُناً للقُوَى مكّن أوروبا من تجنُّب حرب كبرى لما يقرُب من قرن. وسيحاول كيسنجر الآن أن يفعل الشيء نفسه مع مصر.
لقد فهم أن الاستقرار سيعتمد على رؤية العرب أنهم قادرون على تحقيق بعض أهدافهم الخاصة بالترتيب الذي كان يخلقه، وهو أمر لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تخلَّت إسرائيل عن الأراضي العربية التي احتلّتها. وفي أعقاب حرب يوم الغفران مباشرة، اعتقد أن إسرائيل لم تكن قوية بما يكفي لتقديم التنازلات الإقليمية الضرورية وأن العرب ليسوا مُستعدّين للتخلي عن صراعهم مع إسرائيل. لذلك قدّم احتمالية عملية مصالحة طويلة ومتزايدة.
أطلق عليها اسم "الدبلوماسية التدريجية". والغرض منها هو استنفاد العرب، على افتراض أنهم سيكونون في نهاية المطاف أكثر تقبُّلاً لإنهاء الصراع، بينما يُكسبون الإسرائيليين الوقت لتقليل عزلتهم وتقوية أنفسهم بمساعدة أمريكية، ومن الأفضل أن تكون إسرائيل قادرة على تقديم تنازُلات ملموسة لتليين العملية.
في عهد كيسنجر، كانت العملية ناجحة للغاية. ففي عام 1974، تفاوض بشق الأنفس على اتفاقية بين إسرائيل وسورية، أقامت تلك الاتفاقية حدوداً مؤقتة مستقرة حافظت على السلام في مرتفعات الجولان لما يقرب من نصف قرن، حتى في السنوات الأخيرة عندما انزلقت سورية في الحرب وشنّت إسرائيل غارات جوية على مواقع إيرانية هناك. وخلال الفترة التي قضاها كوزير للخارجية، أقنع إسرائيل أيضاً بالتخلي عن الممرات الإستراتيجية لقناة السويس وسيناء، مما أخرج مصر من الصراع ووضع الأساس لمعاهدة السلام الإسرائيلية المصرية لعام 1979، بعد عامين من تركه منصبه.
كان تركيز كيسنجر على تحسين الصراع بين دولة إسرائيل والقُوَى العربية الكبرى، ولم يُولِ اهتماماً يُذكر للقضية الفلسطينية، مُعتقداً أن إدارتها هي مشكلة إسرائيل. لذلك فقد أضاع فرصة للتوصّل إلى اتفاق مع الأردن كان من الممكن أن يساعد في حلها في عام 1974.
لكنه أشاد بجهود إسحق رابين مع منظمة التحرير الفلسطينية بعد عشرين عاماً لإحياء دبلوماسيته التدريجية من خلال اتفاقيات "أوسلو"، التي نصَّت على إرادة الإسرائيليين الانسحاب من الضفة على ثلاث مراحل دون تحديد النتيجة النهائية.
فقدت الإدارات اللاحقة في واشنطن صبرها تجاه نهج كيسنجر. ففي عام 2000، استسلم بيل كلينتون لإصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك على عقد قمة لإنهاء الصراع مع ياسر عرفات في كامب ديفيد. كان كيسنجر سيقاوم لو كان موجوداً فلقد كانت القمة مثالاً لما كان يخشاه أكثر من غيره: يسعى القادة إلى حلول دائمة من خلال محاولة فرض حلول على الأطراف التي لم تكن مستعدة لإنهاء نزاعها أو لدفع ثمن التسوية. في رأيه، يتطلب النظام الإقليمي المُستقر عملية سلام، وليس نهاية اللعبة التي تجازف بتفجيرها. في الواقع انهارت قمة كامب ديفيد، وأطلق الفلسطينيون الانتفاضة الثانية بعد بضعة أشهر.
منذ عهد كيسنجر، وقع قادة الولايات المتحدة مراراً وتكراراً في نفس الفخ. إنهم يسعون إلى اتفاقية الوضع النهائي التي لا بد أن تفشل، وعندما يحدث ذلك، فإنهم يضرون بمصداقية الولايات المتحدة ويزيدون من الاضطراب الإقليمي. إذا كان على إدارة بايدن الآن أن تحذو حَذْو كيسنجر، فسوف تضغط من أجل العودة إلى العملية التدريجية التي اتفقت عليها إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في اتفاقيات أوسلو، والتي طُلب منها خلالها تقديم تنازلات اقتصادية وسياسية متواضعة ومتبادلة.
يجب أن تكون هذه العملية مصحوبة بوقف طويل الأمد لإطلاق النار في غزة. وستحافظ الولايات المتحدة على توازُن القوى الأوسع من خلال مساعدة حلفائها الإقليميين على تولّي زمام المبادرة في موازنة إيران ووكلائها.
إن عملية سلام من هذا النوع لن تهدف إلى تسوية نهائية بقدر ما تهدف إلى إحياء الأمل في حلّ الدولتين في نهاية المطاف. وفي كتابه الصادر عام 2014 بعنوان "النظام العالمي"، وصف كيسنجر ذلك بأنه عملية تدريجية لمنح السلطة الفلسطينية المزيد من سمات ومسؤوليات الدولة، أطلق عليها اسم "دولة في طور التكوين".
وفي غضون ذلك، ستساعد الولايات المتحدة إسرائيل على تطبيع علاقاتها مع دائرة آخِذة في الاتِّساع من الدول العربية، وحصد الاعتراف الذي حُرِمَت منه لفترة طويلة.
في المقابل عليها أن تتخلَّى عن بعض طموحاتها الإقليمية في الضفة الغربية وتقييد النشاط الاستيطاني لصالح الظهور النهائي لدولة فلسطينية متصلة جغرافياً.
هل يمكن لجو بايدن إحياء مثل هذه العملية السلمية في وقت تتراجع فيه أمريكا عن المنطقة؟ فعل كيسنجر ذلك في وقت تراجعت فيه أمريكا عن جنوب شرق آسيا ووسط أزمة سياسية داخلية بسبب "ووترغيت". لذا تتطلب هذه الإستراتيجية دبلوماسية بارعة، وليس جنوداً على الأرض. ولن يتطلب الأمر سوى خطوات صغيرة يمكن تحقيقها بدلاً من قفزة إيمانية كبيرة.