في أحد الأيام حضرت مع بعض الأصدقاء جلسة حول التخطيط الإستراتيجي وكان المحاضر يبذل جهداً كبيراً في إيصال الأفكار وتبسيطها وتقديم كل ما هو جديد في هذا المجال. وبعد انتهاء المحاضرة كان المنظمون قد وضعوا بعض المعجنات مع أكواب من الشاي والقهوة إكراماً للحضور، فتناولت كوباً من القهوة وانشغلت بالتعرف على بعض الحضور بينما ينهي أصدقائي طعامهم، وفي طريق العودة سألت أحد أصدقائي عن أفضل فكرة لفتت نظره في المحاضرة فأجابني: “الطعام” فضحكنا ضحكة قصيرة، وكررت السؤال فأعاد نفس الإجابة وأضاف: “لقد كنت جائعاً ولم أركز في الجلسة”.
تقضي كثير من الشرائع بألّا يقضي القاضي وهو جائع، فالجوع سيولّد خللاً في قدرته على التحكيم والموازنة وقد يتأثر القرار النهائي فيظلم أحد الأطراف، وكانت العرب قديماً تقول: “لا تستشر مَن ليس في بيته دقيق”، حيث يروى أن معلماً كان يُحضِّر درساً فدخلت عليه امرأته لتخبره بأن الطحين نفد من المنزل فقال لها: “لقد أضعتِ من رأسي أفكاري”.
تفرض معظم الدول حدّاً أدنى للراتب يكفي للحاجات الأساسية للموظفين وعادة ما تلتزم معظم المؤسسات بهذه الحدود فتضع سُلَّم رواتبها على أساسه وهو ما يعد المحفز الرئيسي للنشاط والإبداع وتدرك معظم المؤسسات الذكية أن العمل بأجور منخفضة وإن كان سيوفر لصندوقها كثيراً من المال إلا أنه سيحرمها من كثيرٍ من الإنتاج.
تكمن المشكلة الكبرى في المجتمعات المعاصرة في البطالة والفقر الذي يحرم عدداً واسعاً من سكان العالم من تأمين الحد الأدنى اللازم لحياتهم، ويقدّر البنك الدولي عدد الفقراء في العالم بقرابة 700 مليون يعيش منهم قرابة 25 مليوناً في كل من سورية ولبنان والعراق حيث يدخل جزءٌ كبيرٌ من سكان هذه المناطق في فقر مدقع، وتعود معظم الأسباب التي تجعل هؤلاء يقعون في براثن الفقر إلى الحروب والنزاعات واستخدام موارد السكان من قِبل سلطات هذه الدول لتحقيق مصالح السلطة والحفاظ على مكتسباتها.
على جانب آخر يتحدث المجتمع الدولي والأطراف المنخرطة في الصراع ضِمن هذه المنطقة عن مؤتمرات سلام، وغالباً ما يعرضون حلولهم السياسية على السكان دون مراعاة لظروفهم وأولوياتهم. خططٌ ومصطلحات تهطل على أفراد وجماعات هذه المنطقة كزخّ المطر: “بيئة آمنة، تمثيل سياسي، توافُق ومفاوضات، انتخابات وحكومة جديدة وغير ذلك من مصطلحات…” دون العمل على تأمين الحد الأدنى اللازم للعيش من توفير الأمان والخبز، ليتشابه فيه وضع مَن يتم طرح هذه الأفكار عليهم مع وضع صاحبي الجائع الذي لم يجذب نظرَه في كل محاضرة التخطيط الإستراتيجي سوى المُعجّنات.
تتصاعد موجات الهجرة من هذه الدول عاماً بعد عام -وعند كل فرصة- ورغم أن الهجرة تحصل على شكل موجات يتدفق فيها اللاجئون نحو دول العالم إلا أنه حتى الجماعات المهاجرة تتنامى لدى أفرادها فكرة الخلاص الفردي مع مرور الزمن، فرغم أن الفقر والظروف المعيشية الصعبة هي سمة عامة للمهجّرين والمهاجرين إلا أنه ما من حلول على مستوى الجماعة متوفرة في هذا الإطار وكل ما يجري الحديث حوله هو مصطلحات سياسية جوفاء تشبه بالنسبة للمخاطبين سلال الخبز الفارغة التي يحملونها فبالكاد يلقون عليها نظرة شَذراً حتى تعود أنظارهم لسلالهم التي تطمح أن تمتلئ.
الوطن ومؤسساته وأحزابه وجماعاته تأتي بعد تأمين رغيف الخبز وعلبة الدواء وأن يضع رب الأسرة رأسه على مخدته فلا يسمع انفجار قنبلة أو قرقعة معدة، فكلاهما لهما الوقع نفسه على نفسيته وتفكيره، وإن أي حلول تُطرح في أي منطقة من العالم عليها أن تأخذ بعين الاعتبار تدارُك مستويات الفقر المتزايدة ومحاربة الجوع وتدوير محركات المصانع التي تكفل تأمين وظائف للعاطلين عن العمل، وإلا فكل ما يتم طرحه من مصطلحات وما تجود به الاجتماعات من نتائج لن يُعطى أي أولوية عند هؤلاء فصوت المعدة أقوى من صوت الضمير وكل الحلول تبدأ من المعدة.