محمد جميل خضر-نداء بوست- عمّان
في خضم المقتلة السورية، فإن الحدود الجنوبية للبلد العربي الجريح، شكّلت باب عبور ممكن نحو النجاة، وصل مئات آلاف السوريين عبرها إلى مدن أردنية عديدة، وكما لو أن العالم يتوزع الأدوار، فإن من أوكل لهم دور إنشاء مخيمات للهاربين من ويلات تلك المقتلة، الفارين بأطفالهم وأحلامهم وما تبقى من كراماتهم، بدأوا من فورهم نصب الخيام على عجل، ومع مرور الأعوام تحوّلت كثير من هذه الخيام إلى كرافانات (مخيم الزعتري نموذجاً) ترتقي درجات محدودة نحو مفهوم الحياة بالنسبة لمن وضعوا في تلك المخيمات، فإذا بإقامتهم داخلها تطول وتطول؛ لا أفق عودة آمن وله معنى، ولا منفذ خروج من المخيم والمضي أكثر نحو الجنوب وصولاً إلى العاصمة الأردنية عمّان أو مدن أخرى يقيمون فيها خارج فكرة المخيم وبشاعته. الذين تسنى لهم مغادرة المخيم إلى غير عودة، شرعوا مباشرة توضيب أطر واقعهم بعقلانية الأشقاء السوريين، وعديد مهاراتهم في غير حقل من حقول الصناعة والطهي ومعظم المأكولات بما فيها الحلويات وطبعاً الشاورما والكبّة وعموم أطايب الشام وحلب وباقي المدن السورية، التي كانت، قبل كل هذا الموت عامرة. بسرعة انتشرت في الأجواء ثقافة جديدة، بسرعة ازدادت أعداد المصاهرة بين عائلات أردنية وعائلات سورية، بسرعة بات الأردني يسمع اللهجة السورية دون أن يتوقف، أو يسأل، أو يستفسر. ولن أبالغ إنْ قلت إنّ بعض المفردات صارت متداولة، حتى عند الأردنيين أنفسهم. وبعد أن تعوّد الناس في عمّان وما حولها على جَمعات العراقيين، وحفظوا عن ظهر قلب الأماكن المفضّلة عندهم أكثر من غيرها، وتجمعات إقامتهم في الرابية على سبيل المثال وغيرها. إذا بهم يتعوّدون هذه الأيام على جَمعات السوريين، والأماكن التي يُشاهدون فيها أكثر من غيرها، والمطاعم التي يفضلونها (على الأغلب مطاعم أبناء بلدهم من السوريين)، والأماكن التي يقطنونها.
وكما يتفاوت الناس في كل مكان وكل المجتمعات، يتفاوت السوريون المقيمون في الأردن بمستويات معيشتهم وثقافتهم، ويشكّلون بشكل عام، تنوّعاً خصباً ولافتاً. حصتي منهم بشكل خاص، أقام بيننا عدد من السوريين ممن حققوا خلال مسيرتهم وحفرهم في مدارك ذواتهم، اسماً ومكانة، إما فنية، أو أدبية، أو إعلامية، أو مجتمعية. على سبيل الأمثلة لا الحصر: أقامت الفنانة الراحلة مي سكاف زمناً هنا بيننا (قبل رحيلها في العام 2018، غادرت مي الأردن إلى فرنسا). الروائي خيري الذهبي ونجله الكاتب والإعلامي فارس الذهبي قبل أن يستقرا في فرنسا، الشاعر والإعلامي علي سفر قبل أن يستقر في فرنسا، الكاتب والإعلامي فؤاد حميرة قبل أن يستقر في مصر، الممثل عبد الحكيم قطيفان قبل أن يستقر في ألمانيا، الممثل المسرحي جلال الطويل قبل أن يستقر في فرنسا، المسرحي نوار بلبل قبل أن يعود إلى فرنسا، المفكر الراحل سلامة كيله باعتباره سوريّ الانحياز والإقامة والتفاعل مع ثورة آذار رغم اختيار معظم الشيوعيين، سواه، الوجهة الأخرى المعادية لتطلعات الشعوب (سلامة ظل مقيماً في بيته في الأردن حتى رحيله في العام 2018). الأكاديمي المعارض د. يحيى العريضي قبل أن يستقر في فرنسا، القاص إبراهيم صموئيل وزوجته ريم اللذان يواصلان الإقامة في الأردن، رئيس وزراء النظام المنشق رياض حجاب قبل أن يستقر في قطر، اللواء المنشق محمد الحاج علي قبل أن يستقر في تركيا، الناشطة ريما فليحان قبل أن تستقر في أستراليا، الصحفي إياد شربجي، العميد المنشق يعرب الشرع قبل أن يستقر في تركيا، المعارض محمد صبرا قبل أن يستقر في قطر، مهندس الصوت مامِر أباظة قبل أن يستقر في النرويج، السيناريست أحمد يوسف ما يزال يقيم في الأردن، المغني الشعبي أحمد القسيم ابن درعا غادر فترة إلى السودان، الإعلامي شكري زين العابدين الذي يواصل الإقامة في إربد، السياسي عدنان مسالمة، المحامي حسان الأسود، القاصة ندى الخش، الطبيب النفسي والمغني السوري أنس النشواتي. ولعلها قائمة تطول لو واصلتُ قدح الذاكرة، واستعادة أيام في البال قضيتها صديقاً لكثير ممن أوردتهم هنا.
بعض الواردين في القائمة السريعة أعلاه، تركوا خلال أيامهم العمّانية أثراً لا ينسى ولن ينسى، فالعاصمة الصغيرة نسبياً قياساً بكثير من العواصم العربية: القاهرة، دمشق، بغداد، الجزائر وغيرها، المتقوقعة أوجه الحياة الصاخبة فيها داخل بقعة صغيرة هي قاعها (ما يسمى وسط البلد أو عمّان القديمة)، جرت إعادة تعريفها أيام وجودهم، يحبون الحياة هم ولأنهم كذلك فقد سهرنا وصخبنا وغنينا ورقصنا رقصة زوربا في الشارع العام. أحدثنا انقلاباً في المِزاج العمّانيّ العام.
بكينا ثورة ذبيحة. شتمنا الأب والابن والحفيد والأم والزوجة وكل من قال أنا من آل الأسد، صلينا أن يحرق الله روحه حافظ الذي علّم ابنه القتل، ويحرق عظام قبره. منهم من يفضّل أماكن دون غيرها، فإذا بتلك الأماكن تتحوّل إلى مادة ذاكرة حيّة مشبعة بالشجن، فحين يرتاح السوري لمستوى الطعام في مطعم ليليٍّ ما، أو مستوى الخدمة وشكلها، أو طبيعة الأسعار، فهو لا يفكر بتغيير المكان بأي حال من الأحوال، فيصبح هذا المكان أيقونتنا، ومحجّنا الأسبوعي، وفي بعض الأحيان وبعض الظروف اليوميّ. الروائي خيري الذهبي أصدر خلال وجوده في الأردن كتاب "محاضرات في الرواية العربية" ورواية "المكتبة السرية والجنرال"، ونظمت له المؤسسات الثقافية الأردنية ندوات وأمسيات، منها واحدة في رابط الكتاب الأردنيين، وأخرى في منتدى أم قيس الثقافي في مدينة أم قيس شمالاً التي ينحدر منها الشاعر السوري، بحسب الذهبي، ملياغروس. وندوة ثالثة حول الروائي الأردني الراحل غالب هلسا. فارس الذهبي الذي عمل مديراَ لمكتب قناة أورينت في الأردن، كتب خلال إقامته بيننا مسرحيتين وأشرف على إنتاجهما وعرضهما: مسرحية "ليلى والذئب" ومونودراما "مولانا" أخرجها الأردني نبيل الخطيب ومثّل الدور الوحيد فيها الممثل السوري حسني سلامة المقيم حالياً في كندا. كانوا هنا بيننا، مي الجميلة النبيلة، ملأت أرواحنا كل أيام وجودها بيننا بالمعنى. سلامة كيله أضاء دروب بعض التائهين، لوّنوا الليل بألوان الفرح، سهرات بيتية، وأخرى فوق السطح، وثالثة في أماكن عامة، رحلات أشواق، برامج عبر أثير إذاعة أورينت، أو على شاشتها، جَمعة في السلط، أخرى في مادبا، وثالثة في جرش. بليغة الأثر حصتي منهم، عذبة الاستدعاء، وارفة الظلال.
كنا نواصل حلم اندثار نظام البراميل، متمسكين بالأمل، وسنبقى متمسكين به، فنحن كما قال سعد الله ونّوس ذات يوم مسرح عالميّ: "محكومون بالأمل".
Author
-
روائي وإعلامي فلسطيني/أردني..مُعِدّ ومنتج تلفزيوني.. صدر له ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية