"نداء بوست"- محمّد جميل خضر
يطرح فيلم "الجحيم" limbo لمخرجه الأُسكتلندي بِن شاروك عَن نص وسِيناريو وحوار لَهُ، بشكل أساسي، السؤال الوجودي الملح: هل ينْبغي أنْ يبْقى في بلدِه وَلا يَبْرَحَها، الفردُ البسيطُ الضعيفُ الذي لا حولَ لهُ ولا قوّة أمامَ صِراعاتِ الكِبار ومؤامراتِ السِّياسة؟ بغضِّ النظرِ عن مخاطِرِ هذا البقاءِ، وبغض النّظر إن أصبحَ، هذا الذي قرَّرَ البَقاءَ، جزءاً من دوّامةِ الموْت في بِلادِ الموْت؟ أم أنّ المنطق يقول إن عليهِ أنْ يهربَ لاجئاً إلى بلادِ الآخرين، مهْما كانت كلفةُ هذا الهروبِ على صعيدِ القيمةِ وامْتِهانِ الكرامات وضياع البوصلاتِ وشطبِ الذاكراتِ والذّكريات؟ ومهما كانت مخاطر هذا الهروب من ركوب سفن موت، أو تخطي أسلاك بلاد وتجاوز قوانين دول؟ هذا السؤال الذي عُبّر عنه داخل شريط الفيلم على شكلِ صراعٍ داخلي وحِوار خارجي، شكَّلَ ملمحاً لامِعاً ساطِعاً داخِلَ مُفرداتِ الفيلمِ ووجهاته في قلبِ الجزيرة الأسكتلنديّة النائية الباردةِ الكئيبةِ المغلّفةِ بِضبابٍ يحجبُ الرؤيةَ والرّؤيا، ويشلعُ الرّوحَ، ويستهلكُ الأيّام.
المؤلم، وربما اللافت، أن الفيلم المنتج عام 2020، يَنْتَهي تاركاً أسئلةً كثيرةً بلا إجاباتٍ، وأحلاماً معلّقةً في الهواءِ المُر، المنقوعِ ببردِ البِلادِ البعيدةِ عن الأوطانِ المحروقة فوقَ صفيح ساخِن. السّؤال الملح الوجوديُّ الإنسانيُّ الثّاني في الفيلم الثّاني لِبن شاروك بعد فيلمهِ الأوّل "بيكاديرو" (2016)، هوَ: مِن أينَ جاءَ كلُّ سوء الفهْم العميقِ هَذا بينَ الشّرقِ والغرْب؟ مَن صنعَه؟ وَإلى مَتى سوفَ يبْقى؟ سؤالٌ ظلّ معلقاً، ولم يسهم استخدامُ لغة واحدة (استخدم الممثلون في الفِيلم عربٌ وأفارقه وأوروبيون وآسيويوّن اللغة الإنكليزية وسيلةً للتَّواصل، واستخدامُ الممثلِ المصري أمير المصري (لَعِبَ دورَ لاجئ سوري اسمُهُ عُمر) اللغةَ العربيةَ مع أسرتِه خلالَ مكالماته معهُم، وخِلال حوارِهِ الحُلْمِي/ المُفْتَرَض مع شقيقِهِ نبيل)، بالتخفيفِ من كل هذا الالتباسِ، ونمطيةِ الأحكامِ، وقدريةِ انقطاعِ حوارٍ مثمرٍ بنّاء لِصالِح باقي عُمْرِ الكوكبِ المنْكوب.
الحَدُّوتَة..
سَرْدِيَّةُ الفيلمِ هيَ سردِيَّةُ اللاجئينَ جميعِهِم، مِمَّن تُفَرضُ عليهِم وقائعُ لا تُلائمُهُم، وأحْيَاناً لا تضعُ في حِساباتِها أيَّ اعتبارٍ لِكراماتِهم، وخصوصياتِهم، ومنابتِ انطلاقِهم إلى بِلادِ الغرْب. إِذ يَفترِضُ مَن يضعونَ برامجَ تأهيلِ (هؤُلاء)، أنّهم قَد يغرقونَ في شبرِ امرأة قدْ تُراقِصُهُم في مُناسَبَةٍ مَا، وَقَد يتطاولون عليْها لِمُجَرَّدِ أنهُم غيرُ أوروبيين، فالرقي أوروبي، واللباقةُ أوروبيّة، والحضارةُ غربيّة، والرفاهُ هُناك، والحياةُ، حتّى في جزيرةٍ موحِشَةٍ كئيبةٍ لا تزورُها الشمسُ هُناك، وراء بحر ولوحة ومنحوتة وعصرِ نَهْضَة.
هُنا حولَ هذهِ التفصيلةِ تحْدِيداً من حِكايةِ الفيلمِ، يتبيّن أنَّ الغربَ الأوروبيَّ على وجْهِ العُموم، لا يَرى، أوْ لا يُريدُ أنْ يَرى مِن كل المتغيراتِ حولَه، إلا ما يرتبطُ بِثَوْرَتِهِ الصِّناعيّة، ومكتسباته الّلادينيّة.
في الحَدوتةِ، كيْ لا نَحيدَ عن مُتواليةِ أحْداثِ الفيلم، تُستَهل الأحْداثُ بمشهد ينفتِحُ على صف لاجئينَ يُحاولونَ أن يعلّموهُم مفرداتِ اللقاءِ الأوّلِ بينَ رجل وامرَأة، حيثُ على اللوحِ المدرسيِّ التعليميِّ التأهيليِّ، نلحظُ، (يريدُنا المخرجُ أنْ نلحظَ)، ما هُوَ مكْتوب: cultural awareness 101، ثمّ تحتَ هَذا العُنوانِ العَريض، كُتِبَ: sex: is asmile an invitation، وهو ما يُمكنُ أنْ يُتَرْجَمَ عربياً إِلى: (الجنسُ هَلْ هُوَ دَعْوَة)؟ هذا الدرسُ التعليميُّ (الغَشيم) عندَما يتعلّقُ الأمرُ بِثقافاتِ الآخرينَ وقيمهِمْ وَ(لوغارِيتماتِ) تكوّنِهم، شكَّلَ مدْخلًا كوميدياً (تَبَنَّاهُ مُخْرِجُ الفيلمِ) في سياقِ إدانتِهِ لِجهلِ الغربِ بِثقافاتِ غيرِهِ، وانحسار تفكير بيادِقِهِ وَ(عَوامِّهِ) بِما يسمعونَهُ، حولَ الضّفةِ الأُخْرى مِن العالَم، مِن نشرةِ الأَخْبار.
كُوميديا الدّموع..
وسطَ جزيرَة موحِشة لا شمْسَ فيها وَلا رَبيع، فإنَّ أيّ كُوميديا سَعى بِن شاروك إِلى تَمْرِيرِها، لا بدَّ أنْ تنحازَ مِن فوْرِها إلى فرعِ الكوميديا السّوداء، دونَ أنْ ننكِر أنّهُ استطاعَ حقيقةً، انتزاعَ ضحكاتِنا العميقةِ المشلوعَة، في مشاهدَ كثيرةٍ، أقْحَمَنا الشريطُ خِلالَها في تفاصيلِ الشخصياتِ الصغيرَة، وفي أشيائهِم المرتبطةِ بِتداعياتِ وجودِهم فوقَ أرضِ جزيرة خارجَ قوانينِ الهِجرةِ والإقامةِ وبِناءِ الأحْلام. ليسَ مِن بابِ الاخْتراعِ، إِذًا، يمكِنُ تسميةِ كوميديا فيلم limbo بِكوميديا الدّموع.
التراجيديا السّوريّة..
التّراجيديا السّوريةُ كانت حاضرةً بقوّةٍ في شريط شاروك، وَلا أدْري عَن قصدٍ أوْ غيرِ قصْد، جعلَها المخرجُ ترَاجيديا بِلادِ الشّامِ جميعِها؛ فـَ (البابا غنوج) أكلةٌ لُبنانيةٌ أكثرَ مِن كونِها سوريّة، وَنبيل شقيقُ عُمر في الفيلم (أدّى دورَه الممثلُ الفلسطينيّ قيْس ناشِف)، يطرحُ وجعاً عربيّاً جامِعاً، يكادُ يُنبي عن وجعِ فلسطين (حتّى فِي لهجتِهِ) أكثر من أي وجعٍ آخَر.
وعِندما غنّى عُمر وأمّه معاً عبرَ أسلاكِ هاتفٍ عمومي تحيطُه كابينةٌ وحيدةٌ في جزيرةٍ نائِيَة، ثمّ شاركهُما والدُه خالد، أغنيةَ "عصْفور طَل من الشّباك"، فإنّ الشّجن هُنا تجلّى بوصفِه شجنَ بِلادِ الشّام جميعِها:"
عصفور طَل من الشباك
وقال لي يا نونو
خبّيني عندك خبّيني..
دخلك يا نونو
قلت له أنتَ من وين
قال لي من حدود السّما
عُودُ الهُوِيَّة..
يتجلّى عودُ عُمر في الفيلم (هديةُ جدّهِ وبوابةُ رزقِه) بوصفِهِ محدِّدَ هويةٍ مشعّاً بمختلفِ المَعاني، وبوصفِه المعادِلَ الموضوعي الجَماليَّ الإنسانيَّ الذي يذودُ عُمرُ عبْرَه عَن نفسِه شبهاتِ الإرهابِ، ونظراتِ الاستهْتارِ، وحتّى الاحْتِقار. مسرح بِن شاروك الذي يتقنُ العربيّة ويترُكها تحلّقُ في فيلمِه الذي حقّق جوائزَ مُسْتَحَقّةً (أزْيَدُ من سبعِ جوائِزَ مِنها البافْتا وَكان)، في السّينما.
يعودُ لأصلِ الفُنونِ جميعِها. يستحضرُ نِداءاتِ الأحياءِ من أجلِ معْنًى لا يموتُ ولا ينتَهي، يجعلُ من موتِ النيجيريِّ (واصِف) في قلبِ العاصفةِ الثّلجيةِ لحظةً لا تنتهي، في فيلمٍ لا ينْتهي، على أملِ معالجةِ مِحنةٍ لا تَنْتَهي.