محمد جميل خضر- عمّان- نداء بوست
فقد "أبو محمد" الذي ودّع الزبداني إلى غير عودة ربما، أعصابه، وهو يراها تنهار، تلك المنظومة التربوية الأخلاقية التي ترعرع عليها وبدأ بدوره غرسها في عقول أولاده، قبل أن يضطّر لحملهم ذات خوف، والهرب بهم من براميل النظام، قادماً بأحلامه المسفوحة، وذاكرته الجريحة إلى عمّان، وتحديداً إلى العمارة نفسها حيث أقيم من الجزء الشرقي (الشعبيّ نسبيّاً) من العاصمة.
ذاكرة تأخذه نحو ملامح شقيقه الذي استشهد، ونحو ابن شقيقته الذي اختفى ولم يسمعوا عنه أي خبر حتى اليوم.
وسط كل هذا الانهيار الذي حدث بسرعة لم يستوعبها عقله، وفي لحظة خارج المنطق، ضرب ابنه البكر بأداة كاد يفقد الابن المراهق على إثرها عينه. حملته بعدما استنجدت بي إحدى بناته، ونقلته بسيارتي إلى مستشفى حكومي، قائلًا لهم إنه سقط عن الدرج، عالجوه، وأنقذوا عينه.
أصبحنا أصدقاء
بعد هذه الحادثة المؤسفة، وبعد رفضي القطعي أخذ المبلغ البسيط الذي دفعته للمستشفى الحكومي، أصبحنا أنا وأبو محمد أصدقاء، باح لي بأسباب فقدانه أعصابه. بكى أيام عزّ وفخار وكرامة نفس عاشها في مدينته الزبداني، أصحاب أرض ودار وعمل لائق كانوا، يخبرني، ويحكي لي عن بطولات سطّرها أهله من حوله، ويخبرني كيف شكّلت مدينتهم سدّاً منيعاً قبل سقوطها بأيدي قوات النظام.
من بين كل سكّان العمارة (العمارة مكوّنة من ثماني شقق سكنية)، اختار أهل بيته بيتي في الطابق الأول (بيني وبينه طابقان) لقرع بابه وطلب النجدة قبل أن يقع المحظور، فالرجل في حالة غضب، ومع طوله الفارع وقوته الجسدية من عمله بنّاء حجر، خشيت الأم الأسوأ، واضطرت، رغم طبيعتهم المحافظة، وتمثلهم عادات الريف الدمشقي وقيمه (اللباس المحتشم والاختلاط المعدوم)، لطرق بيت أحدهم لإبعاد الأب عن ابنه الذي لاذ بشرفة البيت يكاد يرمي نفسه من الطابق الرابع حيث شقتهم.
لماذا شقتي من دون بقية شقق العمارة؟ أعتقد أن أهم سبب هو إظهاري منذ سكن أبو محمد وأسرته بيننا، تعاطفاً صادقاً، وإخباري له أنني عملت مع قناة "أورينت"، وإظهاري في غير مناسبة التقى فيها رجال العمارة لبحث شأن من شؤونها، موقفي الصريح مع الشعب السوري وليس مع نظامه الذي يؤيده كثير من (وجهاء) الثقافة والسياسة في الأردن. ربما، وربما لأسباب أخرى أجهلها.
ذكريات الزبداني
يخبرني أبو محمد أن زهاء 30 أسرة سورية تقيم حولنا في العمارات المجاورة والأحياء الأقرب إلى حيّنا، كثير منهم، كما أبلغني من معظمية دمشق، بعضهم من حمص، بعضهم من درعا، بعضهم من برزة، آخرون من دمشق نفسها.
حاولت التشاطر وسألته: هل يعني هذا أن مجموعهم حوالي 150؟ فأكد لي أنهم لا يقلون بأي حال من الأحوال عن 200، فجلّهم من أهل الريف الذين لا يكتفون بثلاثة أو أربعة أولاد كما يفعل أهل المدن.
أبو محمد لا يفوّت ولا صلاة، يؤدي الصلوات جميعها، بما في ذلك صلاة الفجر، في المسجد، لم ألحظ أن أولاده يذهبون معه إلى المسجد، أحياناً ألمح ابنه سليمان يذهب معه، وهو الأوسط بعد محمد وقبل الصغير آخر العنقود، إضافة للأولاد الثلاثة لـ(أبو محمد) ثلاث بنات إحداهن تجاوزت بقليل سن المراهقة.
تنخرط أسرة أبو محمد تدريجياً في بيئة حارتنا، زوجته وبناته تعرفن على أسر سوريّة قريبة وتتبادل نساء هذه الأسر الزيارات. يتبدّل شكل اللباس، تتبدّل عادات، يلتقط المنتبه، وحتى غير المنتبه، بعض مفردات اللهجة العمّانية (لهجة أردنية فلسطينية مختلطة) على لسان كبيره محمد، وأكثر وضوحاً على لسان الولديْن الأصغر من محمد (كان عمر محمد حين وصولهم مطالع العام 2012 حوالي عشرة أعوام).
يكبر أولاد (أبو محمد)، وتكبر في الوقت نفسه، المسافة بينهم وبين بيتهم في الزبداني. لعل كل ما بقي من زمن ما قبل لجوئهم إلى بلاد الآخرين، بعض الأحاديث التي يتبادلها أبو محمد مع قريب له ونسيب يسكن العمارة التي تلي عمارتنا مباشرة، أسمعهما، في طريق عودتهما من المسجد، يستعيدان بعض ذكريات الزبداني، يعاينان اللحظة وتداعياتها وتقلّباتها، يتفقان على زيارة، يلجُ أبو محمد باب العمارة ويكمل الجار السوري الآخر طريقه، أربعة أمتار أخرى، قبل أن يلج هو الآخر عمارته.
ارتفعت إيجارات البيوت منذ وصول أول اللاجئين السوريين إلى عمّان، ولعلها فعلت الأمر نفسه بالنسبة لإيجارات البيوت في إربد المدينة الشمالية، وفي الرمثا، وحتى في المفرق. تلك مدن لم تكن متعوّدة، باستثناء المناطق القريبة من جامعات فيها، على مسألة الإيجار كما هو حال العاصمة، وكان المعروف أن إيجاراتها زهيدة جداً قياساً ببدل إيجارات الشقق في عمّان.
استغل بعض المالكين الظرف وضاعفوا بدل إيجار شققهم، بعضهم أجّر قسماً من بيته الخاص به. يظن بعض هؤلاء (أو هم يوهمون أنفسهم) أن المفوضية الخاصة باللاجئين السوريين تغرف الأموال غرفاً وتضعها بلا عد ولا حساب في حجر السوريين. كما لو أن التاريخ يكرر نفسه، فعند حدوث نكبة فلسطين في العام 1948، ونزوح عشرات آلاف الفلسطينيين باتجاه سورية ولبنان والأردن التي استوعبت العدد الأكبر منهم، قال من كان بانتظارنا هنا الأمر نفسه، وتحوّلت معونات وكالة الغوث الدولية إلى باب اتجار واسع، شارك فيه الجميع.
يشكو لي جاري أبو محمد من الساكن قبالتي تماماً، يخبرني أنه يشمت به ويعيّره بتركه بلده، تعجبت وقلت له معقول يفعلها المحامي القومي الذي كان محسوباً يوماً على حزب البعث فرع بغداد؟ قرأت ما بين سطور شكوى (أبو محمد)، يريد أن يقول لي إنه لو كان في بلده لعرّف الجار الشموت من هو أبو محمد بحق وحقيق. ولكن أليست بلاد العرب جميعها بلادنا؟ أسأله، فيكاد يضحك.
أبو محمد يعرف المعارض د. كمال اللبواني حق المعرفة، جاره في الزبداني، البيت لصق البيت، والباب قرب الباب، يخبرني أنه كان يعالجه، يمدحه لي، يقول إن الفقراء كانوا يذهبون إلى عيادته ولا يدفعون كشفية زيارتهم وعلاجهم. لكنه يأخذ عليه سوء اختياره حلفائه بعد بدء الثورة.
يفاجئك هؤلاء الناس البسطاء، يدهشك صدقهم، وفي كثير من الأحيان عمق تحليلهم. واضحون كالشمس، صحيح أن تفكيرهم يأخذ أحياناً اتجاهاً واحداً: هذه حرب على سنّة سورية، هكذا يرونها، وهكذا يرفضون إضافة أي أسباب أخرى لكل ما جرى من خراب.
من الواضح أن موزاييك حارتنا أصبح، بعد مجيئهم، أكثر خصباً. تكاد تشعر، أحياناً، أنك في قلب سوق الحميدية. وبالنسبة لعاشق متيّم مثلي بسورية، كل سورية، فرغم الأسى المرتبط بوجودهم بيننا، إلا أنني أشعر مع تحركهم حولنا ببعض (ونس)، وأقول لنفسي ها بعض سورية أتت إليك بعدما تعذّر ذهابك إليها.
Author
-
روائي وإعلامي فلسطيني/أردني..مُعِدّ ومنتج تلفزيوني.. صدر له ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية