لم يكفَّ ناقوس الخطر عن القرع أبداً في جُلّ مناطق إدلب ومحيطها، وريف حلب، وريف اللاذقية، وريف حماة.
وهو يزداد بفعله هذا اطِّراداً، مُؤذِناً بقدوم الموت، إذ إنه بين الموت القادم جراء البرد القاسي مع موجات الشتاء المتدحرجة، والموت المقبل نحو سكان إدلب عَبْر استمرار الفعل الإجرامي اليومي للمقتلة الأسدية في إدلب وما حولها، وكذلك الموت المتغلغل بين ظهرانَي السوريين عَبْر موجات الغلاء المتلاحقة لتزيد الأسعار 4 أضعاف لكل المواد الغذائية والضرورية كالمحروقات، خلال الأشهر الثلاثة المنصرمة، وليعيش السوري في حالة من العَوَز والفاقة لم تشهدها سورية منذ الحرب العالمية الأولى وموجة (السفر برلك) كما يقال.
ناهيك عن ارتفاع أعداد المصابين بالكورونا وخاصة الفطر الأسود منه خلال الشهرين الأخيرين، بشكل أصبح مخيفاً، ويفترض بكل الدول المعنية، والمنظمات ذات الفاعلية والإمكانية القيام بما هو عليها من واجبات لإنقاذ السوريين من هذا المرض والوباء المنتشر.
ولأنه مازالت معظم المنظمات الداعمة للبِنْية الداخلية المدنية في الداخل السوري -وتحديداً في الشمال السوري (إدلب)- تتمنَّع عن تقديم أي دعم أو مساعدة أو مساندة إنسانية، للقرى والمدن التي تقع جنوب خط "m4" بدعوى أن هذه المناطق لا استقرار في أوضاعها وحيواتها اليومية، واحتمالات قضمها حرباً من قِبل النظام السوري ومَن يدعمه ما تزال قائمة، ومن الممكن بين الفَيْنة والأخرى أن يتوقف أي مشروع دعمويّ في هذه المناطق، نتيجة الحرب القادمة قريباً حسب معظم المتابعين. وأكبر مثال على ذلك هو توقُّف الدعم الكلي والجزئي لقطاع التعليم فيها، حيث إن ما يَنُوف عن 150 معلماً في مدارس (أريحا وجبل الزاوية) باتوا في مهب الريح وبدون أي مرتب، بل يعملون كمتطوِّعين، دون الأمل بأي دعم من أي منظمة، وهذا يشكِّل عبئاً كبيراً على المعلمين الذين وراءهم أُسَر كبيرة وإنفاق حياتي بشكل يومي، في ظل الغلاء الفاحش.
وهو ما دعا أهل النخوة والنشطاء هناك، للقيام بحملة تبرعات داخلية وخارجية لدعم التعليم والمعلمين حتى لا تنهار العملية التعليمية في تلك المنطقة برمتها.
ناهيك عن القصف المتتابع للمدارس والأحياء السكنية وارتكاب المجازر تلو المجازر بحق المعلمين والمعلمات والأطفال في مدارسهم وهو ما جرى مؤخراً في مجزرة "أريحا" بتاريخ 20 تشرين أول/ أكتوبر 2021 التي راح ضحيتها أ كثر من 13 شهيداً وما يزيد عن 45 جريحاً معظمهم من أطفال المدارس.
ولا يكفي أهاليَ إدلب وسُكَّانَها كلُّ أنواع الموت المُحدق بهم، وهاجس الخوف المتمكن من المدنيين، فهناك موت آخر يفتك بهم على طريقته، جراء وجود ألغام كثيرة غير معروفة التواجد وضعها في السابق النظام السوري وميليشياته، ومن ثم فإنه ينفجر الكثير منها بين الناس وتؤدي إلى إزهاق أرواح كثيرة من المدنيين، وقد أكدت مصادر مطلعة مؤخراً أنه «قُتل طفل ورجل وأُصيب آخرون بجروح خطيرة، صباح الجمعة 12 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، بانفجار لغم، من مخلفات الحرب، أثناء عملهم في قِطاف الزيتون في قرية (سان) بالقرب من منطقة "النيرب" شرقي إدلب، وكان قد قُتل منذ عام 2019 وحتى الآن، نحو 629 شخصاً، بينهم 82 مواطنةً و226 طفلاً، جراء انفجار ألغام وعبوات ناسفة من مخلَّفات الحرب في مناطق متفرقة من سورية».
وحول الارتفاع الجنوني للأسعار نتيجة انخفاض الليرة أمام الدولار ولأسباب أخرى فإن "منسقو استجابة سورية"، أكدوا ما قاله الفريق المَعنيّ بذلك في التقرير من أن أسعار المواد الغذائية ارتفعت بشكل حادّ، وبلغت 400%، بينما بلغت نسبة ارتفاع أسعار المواد غير الغذائية 200%، أما الخبز وهو غذاء أساسي للعوائل في المنطقة فقد ارتفع سعره بنسبة 300%.
وكانت قد وصلت معدلات الفقر، وفقاً للفريق، إلى مستويات قياسية تجاوزت 90%. وهذا ما تؤكده تقارير الأمم المتحدة المعنية بأحوال السوريين.
وهذا مؤشر خطير للغاية يدفع بمعيشة الناس لتكون في طريقها للمزيد من التدهور في مدى زمني منظور لا يقلّ عن سنة من الآن، على أقل تقدير.
ويمكن القول إنه ومن خلال هذه الإطلالة الميدانية الملموسة والموثقة على أحوال سكان إدلب وبعد الوقوف على مجمل حالات الِاسْتِعْصاء والِاسْتِنْقاع الكبرى التي يعيشها السوري في إدلب وغير إدلب، من حيث ضبابية آفاق المستقبل السوري وسَوْداوِيَّتها، نتيجة انشغال المجتمع الدولي عن القضية السورية بمسائل أخرى قد تكون أقرب لمصالحه، وبراغماتيته، وانشغال العرب والنظام الرسمي العربي بملفات أخرى، حتى أضحت المسألة السورية آخِر ملفاته، إعلامياً وواقعياً، فراح البعض من أطراف النظم العربية يهرول باتجاه إعادة تعويم بشار الأسد، والقيام بزيارات ودية وتأهيلية له، كما جرى مع وزير الخارجية الإماراتي، حيث يرى المراقبون أنه ستتبعها زيارات وزيارات واتفاقات، بالرغم من التحذيرات الأمريكية التي لم تكن هي الأخرى على درجة من الجدية لتمنع حصول ما حصل، رغم تصريحات وزير خارجية الأردن بأنه ليس على أجندته زيارة دمشق قريباً.
هذا الواقع الإقليمي والعالمي المحيط بالوضع السوري، لا يعطي أي تفاؤُل للسوريين الذين ما زالوا يأملون ويحلمون بحياة أفضل تَقِيهم من كل أنواع الموت المُحدقة بهم، والتي تلفّ حيواتهم وتقلقها، وتجعل أحلامهم كوابيس متتابعة. وهم الذين ما يزالون يرون بأم أعينهم ويعيشونه لحظة بلحظة، ويتابعون خلافات المعارضة السورية واجتماعاتها الطويلة التي لا تفضي إلى شيء جديّ وحقيقيّ، حتى على مستوى التوافُق مثلاً بين الائتلاف وهيئة التنسيق على إنجاز العودة إلى هيئة التفاوض المعطلة فعلياً منذ ما يزيد عن سنة ونيِّف، حيث ما زالت الخلافات قائمة بينهما، حول المستقلين، والمرجعيات لكل منهما، وأشياء أخرى، فتُراوح اجتماعاتهم بالمكان، ويستمرون ينتظرون القرارات الخارجية لتخرجهم من عُنق الزجاجة.
الواقع الِاسْتِنْقاعي المُرّ للمسألة السورية، تتحمل مسؤوليتَهُ في الدرجة الأولى آلياتُ التعاطي البائسة من قِبل كل الطَّيْف السياسي والعسكري للمعارضة السورية، وهي التي وضعت كل بيضها في سلة الخارج، ورهنت قراراتها له، فباتت في مهبّ الريح، وضِمن حالة من العجز المقيم، الذي لا يمتلك القدرة على الخروج من مباحثات في اللجنة الدستورية باتت عبثية، أرادها النظام السوري وداعموه الروس على هذه الحال، لتبقى بلا أيِّ تقدُّم عَبْر كل جولاتها المتواصلة ورحلة الشتاء والصيف إلى جنيف.
فهل يمكن أن يشهد واقع الخوف والموت المُحدق بالسوريين من كل صَوْب، انبثاقات تغيُّر جديدة، تُعطي الأمل للناس، وتعيد المسألة إلى مَساراتها الطبيعية، أم أن هذا الموت القادم والمُحدق سيبقى على ما هو عليه باتجاه حَيَوات أكثر سواداً، وأكثر دماراً للحياة ولكل البِنَى التحتية للشعب السوري في إدلب والشمال وكل الواقع السوري؟!