نداء بوست – ترجمات – فورين بوليسي
لقد هيمنت سَردِيَّة في الولايات المتحدة ومعظم أوروبا مفادها أن روسيا هي عبارة عن قوة تسعى إلى قلب الوضع الراهن، وتحدي "النظام القائم على القواعد"، وتعمل بشكل عامّ "كمفسد" في الشؤون الدولية، وفي أراضي الاتحاد السوفياتي السابق، هناك ما يثبت هذا الأمر.
ولكن في الشرق الأوسط الكبير، هناك شيء غريب حول ماهيَّة هذه الصورة للسلوك الروسي. ففي هذه المنطقة، وعلى مدار العشرين عاماً الماضية، كانت الولايات المتحدة في الواقع هي التي عملت على تعطيل الوضع الراهن الحالي، وقد أثبتت المعارضة الروسية لسياسات الولايات المتحدة بشأن القضايا الرئيسية في وقت لاحق أنها صحيحة من الناحية الموضوعية ليس فقط من وجهة نظر روسيا والمنطقة ولكن أيضاً من وجهة نظر الولايات المتحدة والغرب.
لقد تم تصميم السياسات الروسية لخدمة المصالح الروسية بكل تأكيد ولكن مع ذلك فإنه لم تكن مصادفة اكتشاف حقيقة أنهم (أي الروس) يتوافقون مع المصالح الغربية أيضاً. لقد بُنيت هذه السياسات الروسية على تحليل أجرته السياسة الخارجية الروسية والمؤسسة الأمنية لدول الشرق الأوسط والتي تبين أنها صحيحة في حد ذاتها، وهي أيضاً قريبة جداً من تلك الدراسة الخاصة بالعديد من المؤسسات الأمريكية.
ويُعتبر التحليل الروسي الأساسي هو تصور يمكن تسميته بأنه مناهض للديمقراطية ولكنه يُوصف بشكل أكثر دقة بأنه إحساس عميق بهشاشة الدول والخوف من الفوضى والحرب الأهلية، إلى جانب التشكك العميق في مشاريع التغيير الثوري السريع. وتعود جذور هذا الموقف إلى التجارب الروسية المروعة في القرن العشرين. وكما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لصحيفة نيويورك تايمز في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2003 بشأن نتائج الغزو الأمريكي للعراق، "ليس هناك مفاجأة بالنسبة لنا بشأن الوضع الذي تبلور، لأننا توقعنا تطوُّر الوضع هناك كما هو يتطور الآن بالضبط. فكيف يمكن للمرء أن يتخيل مساراً مختلفاً للأحداث في حالة يتمّ فيها تفكيك النظام؟ إن تفكيك النظام هو عبارة عن تدمير للدولة فكيف يمكن أن يكون الأمر خلاف ما هو عليه الآن؟".
وقد ربط بوتين هذا التدمير الذي لحق بالدولة العراقية -بحكمة شديدة، كما اتضح فيما بعد- بالزيادة الهائلة في التطرف حين قال:
لم يكن نظام صدام حسين نظاماً ليبرالياً ولكنه كافح ضد الأصوليين. والآن لم يعد هناك صدام حسين ولكننا نشهد تسللاً لأعداد كبيرة من أعضاء المنظمات الإرهابية المختلفة على الأرض العراقية.
وبالنظر إلى ما حدث في العراق، هل يمكن لأي شخص أن يقول إن بوتين كان مخطئا في معارضة الغزو هناك؟ ألن تكون الولايات المتحدة نفسها اليوم أفضل حالاً لو قبلت في 2002-2003 النصيحة الروسية؟
لقد جعلت التجربة السوفيتية الروس متشككين بشدة في المشاريع الثورية لتحويل المجتمعات الأخرى وفقاً لنموذج أيديولوجي عالمي واحد -لأن هذا هو ما حاولت الشيوعية السوفياتية فعله في جميع أنحاء العالم، وبالتالي تورطت روسيا في سلسلة من الكوارث المروعة المكلفة. وهكذا رأى الروس (و هو أمر صحيح) أن مشروع الولايات المتحدة في أفغانستان يشبه من نواحٍ رئيسية الجهد السوفياتي في الثمانينيات، ومحكوم عليه بفشل مماثل.
وكما قال بوتين لصحيفة "فاينانشيال تايمز" في عام 2019 بشأن نتائج الإطاحة الغربية بدولة معمر القذافي في ليبيا:
"هل شركاؤنا الغربيون يريدون منطقة كـ "ليبيا" أن يكون لها نفس المعايير الديمقراطية مثل أوروبا والولايات المتحدة؟ فمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بها أنظمة ملكية فقط أو دول ذات نظام مشابه للنظام الموجود في ليبيا. ومن المستحيل فرض معايير ديمقراطية فرنسية أو سويسرية حالية وقابلة للحياة على سكان شمال إفريقيا الذين لم يعيشوا أبداً في ظروف مؤسسات ديمقراطية فرنسية أو سويسرية. بل على العكس من ذلك فقد أدى فرض نموذج كهذا إلى الصراع والخلاف بين القبائل؛ لأن الواقع يقول إن الحرب مستمرة في ليبيا".
ولكن هل أثبتت نتائج الإطاحة بالقذافي أن بوتين كان على صواب أم خطأ؟ لا تزال الحرب الأهلية مستمرة بالفعل حتى يومنا هذا، وقد أتاح انهيار الدولة الليبية حركة جماعية للمهاجرين عبر البحر الأبيض المتوسط أدت إلى زعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي.
وقد وصلت الخلافات الأمريكية الروسية في الشرق الأوسط إلى ذروتها مع الربيع العربي عام 2011 والانتفاضات في مصر وسورية وليبيا. وقد تشكل رد الفعل الروسي على هذه الأحداث جزئياً من خلال الرغبة في الدفاع عن الحلفاء السوفيات القدامى و(في حالة سورية) الاحتفاظ بآخر قاعدة بحرية لروسيا في البحر الأبيض المتوسط.
لكن الأهم من ذلك، كان خوف روسيا من أن تؤدي هذه الانتفاضات إلى انتصار القوى المتطرفة وإنشاء قواعد لإحياء الإرهاب في روسيا، الذي أودى بحياة العديد من الروس قبل وأثناء الحرب الشيشانية الثانية. وازدادت مخاوف كل من روسيا والدول الأوروبية من تنظيم الدولة الإسلامية في سورية بسبب العدد الكبير من المواطنين المسلمين الأوروبيين والروس الذين سافروا إلى سورية للقتال ثم حاولوا العودة إلى ديارهم.
وكما قال بوتين بخصوص التدخل الروسي في الحرب الدائرة في سورية:
"لقد قررت أن التأثير الإيجابي لمشاركتنا النشطة في الشؤون السورية لروسيا ومصالح الاتحاد الروسي سوف يفوق بكثير عدم التدخل والمراقبة السلبية لكيفية نمو منظمة إرهابية دولية بالقرب من حدودنا."
وقد وصفت وزيرة خارجية الولايات المتحدة هيلاري كلينتون المعارضة الروسية للإطاحة بدولة البعث في سورية بأنها "حقيرة". ولكن الآن هناك شيء غريب عندما يصف الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في مذكراته "أرض الميعاد" كيف اجتمعت حكومته في كانون الثاني (يناير) 2011 لمناقشة تطوُّر الثورة في مصر وما إذا كانت ستدعو إلى استقالة الديكتاتور المصري حسني مبارك، ثم انخرط في حملة قمع وحشية ضد المتظاهرين:
"كبار الأعضاء الأكبر سناً والأكبر في فريقي -جو وهيلاري وغيتس وبانيتا- نصحوا بالحذر، فجميعهم عرفوا مبارك وعملوا معه لسنوات. وشددوا على الدور الذي لعبته حكومته منذ فترة طويلة في حفظ السلام مع إسرائيل، ومحاربة الإرهاب، والشراكة مع الولايات المتحدة في مجموعة من القضايا الإقليمية الأخرى. وبينما أقروا بضرورة الضغط على الزعيم المصري بشأن الإصلاح، حذروا من أنه لا توجد طريقة لمعرفة مَن أو ما الذي قد يحل محله؟".
يمكن القول: إن تكتيكات نظام البعث في الحرب السورية كانت أكثر وحشية من أي شيء نفذه مبارك. ولكن مرة أخرى، قبل 20 عاماً، اتبعت إدارة كلينتون خُطى إدارة جورج بوش من خلال دعم النظام العسكري في الجزائر في إلغاء نتائج الانتخابات الديمقراطية وفي حملة وحشية ضد المعارضة الإسلامية. فقد كانت حسابات الولايات المتحدة المتعلقة بالجزائر متطابقة تقريباً مع حسابات روسيا في سورية.
إن قول هذا لا يعني إدانة آل كلينتون أو المسؤولين والمحللين الأمريكيين الذين أعربوا عن شكوكهم بشأن ما يسمى بالثورات الديمقراطية في الشرق الأوسط والمخاوف من أنها قد تؤدي إلى الفوضى وانتصار المتشددين. فقد كانت شكوكهم ومخاوفهم مبررة، كما أظهرت نتائج الربيع العربي. فالشرق الأوسط هو منطقة لها طبيعة سياسية قاسية، وأي قوة خارجية تعمل هناك يجب أن تكون مستعدة للعمل مع بعض الأنظمة الفاسدة.
هؤلاء المسؤولون الأمريكيون الذين نصحوا أوباما بعدم الإطاحة بنظام بشار الأسد في سورية، خوفاً من أن يتولى تنظيم الدولة الإسلامية زمام الأمور، كانوا متطابقين مع السياسة الروسية، وكذلك أولئك الذين أقنعوا اليوم إدارة بايدن بالاستمرار في العمل مع السعودية ولكن مع ذلك، فمن الصعب معرفة سبب وجوب إدانة روسيا لاتباعها نفس نهج المستشارين الأمريكيين العقلاء والتغاضي في نفس الوقت عن القرارات التي اتخذتها الإدارات الأمريكية بما يخص تعاملها مع أنظمة فاسدة وقمعية.
أخيراً، لعبت العقوبات الروسية في النهاية (بعد تأخيرات طويلة باعتراف الجميع) دوراً مهماً في حمل إيران على توقيع الاتفاق النووي في عام 2015. ولطالما دافعت روسيا عن حل وسط أمريكي مع إيران بشأن القضية النووية، ولو كانت الولايات المتحدة قد عملت بهذه النصيحة في 2002-2003، فكان من الممكن أن تحصل على صفقة أفضل بكثير من تلك التي حصلت عليها في عام 2015، ناهيك عن أي شيء يمكن تحقيقه اليوم.
ومن المثير للاهتمام، أن موقف روسيا من الاتفاق النووي والشراكة مع إيران في سورية لم يدمر علاقة روسيا الوثيقة بإسرائيل، القائمة على روابط قوية مع الجالية اليهودية في روسيا، وكذلك على التزام مشترك قوي بمحاربة التطرف. فلقد كرهت الحكومات الإسرائيلية إلى حد كبير الدور الإيراني في سورية، لكنها أيضاً تخشى بشدة من عواقب انهيار النظام السوري، وأدركت الطبيعة المحدودة والمشروطة للغاية للتعاون الروسي الإيراني.
وقد صرحت إدارة بايدن أنه أثناء مواجهتها لروسيا بشأن قضايا معينة، فإنها تريد العمل مع روسيا حيث تتلاقى المصالح الأمريكية والروسية. ويشير تاريخ الشرق الأوسط خلال العشرين عاماً الماضية إلى وجود أساس قوي للتعاون في هذا المجال على الأقل. ولكن مع ذلك، فإن تطوير مثل هذا التعاون سيتطلب من صانعي السياسة في الولايات المتحدة الاعتراف -على الأقل لأنفسهم على انفراد- بعدد المرات التي ثبت فيها أن روسيا كانت على حق، وأمريكا على خطأ.