نداء بوست- محمد جميل خضر- البحر الميت
لم يتوقّف صدام عن امتداح الغرفة التي سنقضي فيها ليلة الخميس داخل واحد من فنادق الخمس نجوم في البحر الميت ضمن مناطق الأغوار الأردنية.
الشاب اللائذ بالعمل يحمل حقائب النزلاء، ما كان بإمكانه أن يفعل غير ذلك، إذ تبيّن لنا أننا الوحيدون في فندق يصل عدد غرفه إلى أكثر من 300 غرفة متنوّعة المساحات وصولاً إلى الأجنحة السويت والشاليهات.
وما كان بإمكانه أن يفعل غير ذلك خشية تسريحه إن لم يحسن عمله في ترغيب الزبائن وعمل كل شيء من أجل راحتهم، خصوصاً أن تسريح عدد كبير من الموظفين والعاملين في فنادق الخمس نجوم على امتداد شاطئ البحر الميت، يتواصل على قدم وساق منذ بدايات جائحة كورونا.
وما كان بإمكانه أن يفعل غير ذلك ليسهّل علينا "هضم المقلب الذي أكلناه" بدفعنا مبلغاً غير قليل (زهاء 200 دولار) مقابل غرفة تطل على البحر مباشرة، صحيح، ولكنه بحر لا حياة فيه، لا داخل أحشائه، إذ لا توجد أي مظاهر حياة هناك، وهي الحقيقة التي منحته لقب (بحر ميت)، ولا حوله على شاطئ من الواضح أن أصحاب الفندق من طراز كبار المستثمرين، دفعوا مبلغاً خرافياً ليحتلوا كل هذه المساحة لفندقهم من هذا الشاطئ الصغير جداً قياساً بشواطئ بحار العالم ومحيطاته.
احتفى صدام بنا، كما فعلت موظفة الاستقبال، وكما فعلت العاملات الآسيويات في مطعمه، وكما فعل المنقذون قرب بِرَك سباحةٍ لا أحد فيها، وكما فعلت غربان السماء التي شاركتنا فطورنا بعنف أرعبنا، فمن الواضح أن جلسة فطور على شرفة المطعم قبالة البحر، ترف لم تنعم به تلك الغربان الجائعة منذ أشهر طويلة.
لم تتوقف عاملات المطعم سواء على العشاء أو على الفطور عن تذكيرنا بأصناف قد تكون فاتتنا، ولم يتوقفن عن إحضار أصناف الطعام التي قررن أن من الواجب علينا تذوّقها، علماً أن الأصل في هذه الفنادق العمل بنظام البوفيه المفتوح، وكل زبون يحضر ما يروق له ويحتاجه من أصناف الطعام.
إنها قصة الزبونيْن الوحيديْن أيها السادة، فأنا وزوجتي قبلنا هدية الأولاد، وتوجهنا نحو أخفض بقعة في العالم تحت سطح البحر، لتبدأ المفارقة العجيبة الغريبة أننا وحدنا في فندق أشبه بقلعة مترامية الأطراف.
وحدنا وعدد من الإداريين والموظفين والعاملين من شأنه خدمة مائتَيْ ضعفنا، كدتُ أصرخ وجع محمود درويش "آه يا وحدنا"، ولكن، والحق يقال، إن هذه الوحدة تختلف بالمبنى والمعنى عن الوحدة التي استشعرها الإنسان الفلسطينيّ، عندما تخلّى عنه بنو جلدته من أمّة العرب.
وعلى سيرة فلسطين، فهي لم تكن تبعد عنّا سوى رمية حجر، وفي المغطس حيث جرى، بحسب ما يعتقد الإخوة المسيحيون، عمّاد نبي الله عيسى ابن مريم، وقد زرناه في طريقنا للبحر، فإن الجهة الشرقية من نهر الأردن، لم يكن فيها سوانا وعدد أصابع اليدين من أجانب لم أعرف من أيِّ بلد هم، في حين تعج الضفة الغربية من النهر المقدّس بالسياح والحجيج والحركة والتسبّح بماء العمّاد، فهل حتى في هذه فشلنا بالتفوّق على عدوّنا؟ علماً أن المسافة بين جانبَي المغطس لا تزيد على سبعة أمتار، يتوسطها حبل للتمييز بين الجهة الأردنية والجهة الإسرائيلية.
ما يثير عاصفة من الأسئلة هو هذا التسابق المحموم الذي جرى في العقدين الماضيين استثماراً حول البحر الميت ومن وحي فرص سياحية كبرى تتعلق به، فهل كان هذا التسابق مدروساً؟ وهل أُجريت دراسات جدوى حقيقية وعلمية لتحديد حاجة المنطقة من فنادق واستثمارات؟ فالفندق الذي كان خيارنا، يشكّل واحداً من زهاء 20 فندق خمس نجوم تتزاحم بمناطق قرب الشاطئ كانت معظمها مفتوحة لعامة الناس مّمن قد يحضرون معهم بعض طعام ومكسرات وأراجيل وكراس وشاي وقهوة ويستمتعون بما منحتهم الطبيعة إياه لا توحّش رأس المال.
وهي تشكّل جزءاً من حركة استثمارات كبرى شملت العاصمة وخليج العقبة وعجلون وجرش ومدينة البتراء وغيرها، إضافة للبحر الميت، صدّق المستثمرون خلال تسابقهم المحموم على نيل حصتهم منها، أن أبواب السياحة الداخلية والخارجية، سوف تشهد ثورة الله مولاها، فإذا بهم يجلسون بانتظار هذا الانفجار، يضعون رجلاً على رجل، يعدّون ذباب الغور وما أكثره، ينتظرون زبوناً قد تسوقه أقداره نحو مخالب شراهتهم، أين منها منقار الغراب الذي كاد يقضم إصبعي ليخطف منه كسرة خبز كنت في طريقي لوضعها له.
أخبار غرفتنا كانت تُبث على الهواء مباشرة، فهي الغرفة الوحيدة التي ظلت تفتح بين الفينة والأخرى لنخرج منها باتجاه الشاطئ، أو المطعم، أو خدمات الفندق الأخرى مثل جناح الساونا والمساج وما إلى ذلك.
وما أن كنا نفتح باب الغرفة، حتى يتأهب الجميع، وبلمح البصر يصبح صدام قربنا يسألنا حاجتنا، وصدام كما عقاب وراكان، هم من أبناء المنطقة ممن شكّلت هذه الاستثمارات فرص عمل لأبنائها ممن تعبوا من مغامرات الزراعة الخاسرة في معظم الأحيان، فالبندورة تُترك في أرضها لأن ثمن الصندوق الواحد منها لا يكفي دفع ثمن قطافها ناهيك عن الكلف الكثيرة الأخرى؛ من ثمن مبيدات، وأشتال، وضخ مياه، وضمان أرض، وكهرباء وغيرها، وهكذا دواليك، نفّروهم من الزراعة التي ظلت مصدر دخلهم الأول في الوادي الذي كان يسمّى ذات رفاه (وادي الأردن الأخضر)، ثم جرّوهم نحو العمل الخدماتي والسياحي، ثم استغنوا عن كثير منهم، فلا هم بقوا مزارعين كما آبائهم وأجدادهم، ولا هم مالكي أراضٍ كما هو حال أبناء عشيرة العدوان هناك، فزادت بينهم نسب البطالة، وزادوا على فقرهم فقراً.
هم بسطاء الأرض ممن جاؤوا من كل حدب وصوب، وخصوصاً من فلسطين، لينتهي المطاف بصدّام الواضح من اسمه أن أباه يحمل، ربما، أحلاماً عروبية، ليحمل حقيبة هنا، ويخدم زبوناً هناك، ويُقْسِم أن غرفتنا أجمل غرفة من بين غرف باقي الزبائن، في فندق ليس فيه سوانا زبائن.
Author
-
روائي وإعلامي فلسطيني/أردني..مُعِدّ ومنتج تلفزيوني.. صدر له ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية