منذ أن انطلقت الثورة الشعبية في تونس ضد النظام الدكتاتوري والدولة الأمنية مطالبةً بالمساواة والحرية والكرامة والتي استطاعت إزاحة الدكتاتور في غضون شهر وإقامة دولة وطنية ديمقراطية، حتى امتدت بشعاعها في غضون ثلاثة أشهر إلى كل من ليبيا ومصر وسورية واليمن، الدول الأكثر دكتاتوريةً وفساداً من النظام التونسي، ولما كان التيار الإسلامي في تلك الدول أكثر تنظيماً وحضوراً وقدرة على استقطاب الشارع من خلال استغلال العامل الديني، فقد استحوذت على مفاصل هذه الثورات، وبدأت تحاول أيضاً سحب مكتسبات الثورة لصالح أجنداتها وأيديولوجيتها وفلسفتها في التمكين، خاصة تيار الإخوان المسلمين في مصر، الذي يعتبر الأم والمرجع الأساسي لكل التيارات الإسلامية في المنطقة، وساعدها في ذلك توجُّه السياسة الأمريكية (الأوبامية) الجديدة والقاضية بأنه لا يمكن القضاء على التيارات الإسلامية المتطرفة إلا من خلال دعم التيارات الإسلامية المعتدلة، المتمثلة في التيار السني الإخواني العربي والتيار الشيعي الإيراني، متأثرا بالتجربة الإسلامية الإيرانية والتركية المتمثلة في حزب العدالة والتنمية، لذلك أرخت الحبل للتيارين ومنع على الدكتاتوريين من استخدام الجيش في قمع المظاهرات، حتى دفعتها للتدخل عسكرياً في ليبيا لإزاحة القذافي، ولم يسمح للجيش المصري بالتدخل من خلال استدعاء رئيس أركان الجيش المصري الفريق سامي عنان إلى واشنطن، وتحذير القيادة المصرية من استخدام الجيش في قمع المتظاهرين، والطلب من الرئيس مبارك التنحي عن السلطة لصالح الشعب، كل ذلك كان أملاً منه أن يقوم الإسلاميون بدور إيجابي في تحقيق العدالة والمساواة والحرية والديمقراطية، ومواجهة التطرف.
لكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، وبدلاً من أن يستوعب الإسلاميون اللعبة السياسية الدولية في إدارة الدولة، وعدم المساس بالبنية الأساسية لمؤسسات الدولة الحسّاسة كالجيش وشكل نظام الدولة، على الرغم من زيارة الرئيس أردوغان إلى مصر ونصحهم بذلك، من حيث الحفاظ على مؤسسات الدولة العلمانية والتفرغ للاهتمام بالشعب من خلال تحسين وضعه الاقتصادي والاهتمام بالتعليم والحوكمة الرشيدة، والمشاركة السياسية مع الآخرين في إدارة الدولة، والاقتداء بالتجربة التركية في الدولة العلمانية، إلا أن هذا الموقف قُوبل بانتقادات حادة من قِبل "الإخوان المسلمين" حول تفسير الدولة العلمانية، بل اتبعوا توجيهات نائب المرشد العامّ المهندس "خيرت الشاطر" ونظريته في التمكين للسلطة وعدم إفساح المجال من خروج السلطة من أياديهم، وكانت خطبته الشهيرة في الملعب البلدي ٢٠١٢ قد أرعبت الجميع، الجيش والتيارات العلمانية وحتى الغرب، خاصة عندما نكثوا بوعودهم للشعب، بأنهم لن يترشحوا لرئاسة الجمهورية كما أنهم بدؤوا بنسج علاقات مع إيران وسحب سفيرهم من إسرائيل.
وأظهروا للشارع المصري العامّ بأنهم أمام تيار لا يعطي أهمية للحريات وحقوق الإنسان، وأنهم استخدموا الديمقراطية أسلوباً للسيطرة على الحكم، ثم رموها خلفهم، إضافة لذلك، وبدلاً أن يواجهوا التطرف الديني في مصر وخاصة في سيناء، عملوا على خط التهدئة معهم، ومحاولة استخدامهم كورقة ضد الجيش، وقد بدا ذلك واضحاً من خلال لقاء خيرت الشاطر مع وزير الدفاع حينها عبد الفتاح السيسي في آب/ أغسطس 2013 وتهديده مباشرة للسيسي حينها، وكان لقاء وزير خارجية أمريكا "جون كيري" مع الرئيس المصري الراحل "محمد مرسي" في آذار/ مارس 2013 في القاهرة القشّة التي قسمت ظهر البعير، حيث صرح بعد الاجتماع مباشرة، بأن (هؤلاء الرجال لا يفعلون أي شيء مثمر، وفى النهاية سيصبحون مناهضين للديمقراطية).
كل هذه العوامل مجتمعة دفعت بالجيش وأمريكا وبعض الدول العربية والتيارات السياسية الأخرى والحرس القديم من النظام السابق، إلى الإطاحة بالنظام الإخواني في مصر إن جازت التسمية.
وهكذا بدأ العد العكسي دولياً بسحب الثقة من التيار الإسلامي السني المعتدل، وما نشهده منذ أكثر من شهر في تونس يصبّ في هذا الاتجاه، رغم أن حركة النهضة التونسية معروفة بمرونتها السياسية، وتحالفها مع القوى العلمانية بشقيها الليبرالي واليساري، كما أن الخلافات التي نشبت بين قياداتها المؤسسين مع رئيس الحركة الدكتور راشد الغنوشي، أمثال الدكتور عبدالفتاح مورو النائب الأول لرئيس حركة النهضة، الذي حذر من تنامي ظاهرة التمكين من خلال رابطة حماية الثورة، وهي منظمة شبابية تعمل تحت عباءة النهضة سراً، تأسس بعد الثورة حيث يقول مورو (إن حركة النهضة متساهلة مع روابط حماية الثورة وبسكوتها تضاعف العنف السياسي) وعبدالحميد الجلاصي وهو أيضاً أحد المؤسسين وشغل منصب نائب رئيس الحركة الذي لخص الأزمة في رسالة الاستقالة في شباط 2020 بعدة جمل (الخلاصة التي أصل إليها اليوم أنه تم استنزاف الرصيد القِيَمي والأخلاقي والأركان التأسيسية، مثل الصدق والإخلاص والتجرد والإيفاء بالتعاقدات والديمقراطية والانحياز الاجتماعي).
كما أن الإعلامي المعروف أحمد منصور والمقرب من التيار الإسلامي، عبَّر بمرارة عن إخفاق التجربة التونسية في بوست قصير على تويتر(ما يحدث في تونس لا يشكل مفاجأة لي على الإطلاق، ولكني أعتبره تأخر، فأنا أتوقعه منذ سنوات؛ لأن حركة النهضة سارت على نفس خطى الإخوان وأخطائهم في مصر شبراً بشبر وذراعاً بذراع وخُطوةً بخُطوةٍ، ومن ثَمّ فإن النتائج الكارثية واحدة، ضياع الثورة وعودة الاستبداد والدكتاتورية والفساد).
ومن المؤسف القول بأن التيار الإسلامي في الثورة السورية اقتدى أيضاً، بالتجربة المصرية، ومارست سياسة التمكين على الأرض من خلال إقصاء القوى العسكرية الثورية الديمقراطية والعلمانية على الأرض، وشكلت فصائل عسكرية إسلامية بديلاً عنها، وأبعد الآلاف من الضباط والعسكريين من صفوف الثورة، علماً أن الائتلاف ما زال يحتفظ بالطابع الوطني العامّ، لكنه غير قادر على التحكم بالفصائل وتوحيدها على أساس مشروع وطني جامع، رغم محاولاته المتواصلة، وأعتقد بأن عزوف الدول الصديقة عن دعم الثورة يعود، في جزء كبير منه، إلى توجُّه الثورة إسلامياً بعد 2013. ولنا عودة للموضوع مستقبلاً.
لكن ما يثير المخاوف أكثر، هو العودة للأنظمة الدكتاتورية بطريقة تدريجية سلسة، وإبعاد فكرة النظم الديمقراطية، والتعامل مع نظرية المستبد العادل كمقدمة لعودة الدكتاتورية والدولة الأمنية.
لذلك ما هو مطلوب اليوم من التيار الإسلامي مراجعة شاملة ونوعية في فلسفتها في الحكم والإدارة والديمقراطية، وإلا فإن فشلها سوف يشمل الجميع دون استثناء.