عقب تفقُّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شوارع بيروت المدمرة أغسطس 2020 بعد الانفجار الكارثي في المرفأ، الذي راح ضحيته مئات الأشخاص وألوف الجرحى وتسبب في دمار هائل للمنازل والممتلكات وأوقف الحياة في لبنان لأسابيع قال: "إن ما يحتاجه لبنان هو تغيير جذري" وقال ماكرون في مؤتمر المانحين الدوليين: لا بد من تبني مبادرات سياسية قوية لمكافحة الفساد وفرض الشفافية وتنفيذ الإصلاحات التي طُرحت قبل عامين!… "وعلى رأس هذه الخطوات “إصلاح قطاع الطاقة لحل أزمات نقص الكهرباء التي تؤثر على الشعب اللبناني اليوم". لكن هذا التذمر من الوضع الكارثي اللبناني يذهب لأبعد من عام 2020، فهو نفس الموضوع الذي طُرح في مؤتمر المانحين الذي انعقد في باريس في 2018 حيث أبدى البنك الدولي ودول العالم استعداداً لضخ مليارات الدولارات لمساعدة لبنان على ترتيب أوضاعه المالية والبنية التحتية بدءاً بالكهرباء، وذلك بشرط واحد أن تطبق بيروت إصلاحات من بينها إقامة هيئة تنظيمية للقطاع وتحديث الشبكة وزيادة الأسعار، وعكف البنك الدولي عام 2020 على إعداد تقرير لإيجاد حل للمعضلة الاقتصادية اللبنانية وخاصة الطاقة الكهربائية ذات المنشأ السياسي الطائفي الحزبي.
بدل اللجوء لحل المعضلة السياسية فيما بين الفرقاء اللبنانيين الذين يحكمون الخناق على لبنان اقترح وزير الطاقة في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية ريمون غجر استدانة تريليون ونصف ليرة لبنانية أو حوالَيْ مليار دولار لشراء الوقود من أجل الكهرباء، وأعرب الوزير أكثر من مرة أن لبنان قادمة على أوضاع صعبة جداً حيث إنه لا وقود يعني لا كهرباء.
التيار الوطني الحر الذي يرأسه ميشيل عون حاول الدفع بالموافقة على بناء محطة الكهرباء في منطقة مسيحية شمالية على شريط صخري يطل على ساحل البحر المتوسط بالقرب من قرية اسمها "سلعاتا"، رغم أن سلعاتا غير مرتبطة بشبكة الكهرباء وتحتاج شراء أراضٍ هائلة وردم مياه البحر وتكلفة غير مبررة مادية وبيئية، وفي المقابل كان هنالك مشروع آخر من أجل شراء محطة كهرباء في الزهراني وهي منطقة يغلب عليها الشيعة في الجنوب! وما بين سلعاتا والزهراني والمحاصصة والفساد والاستفادة من سفيرة الولايات المتحدة لدى بيروت، دوروثي شيا أعلنت عن قرار الإدارة الأمريكية بمساعدة لبنان في استجرار الطاقة الكهربائية من الأردن عبر سورية عن طريق الغاز المصري، وقد تجاوز إنتاج مصر من الغاز الـ7 مليارات قدم مكعبة يومياً وتجاوزت الصادرات إلى المليار قدم مكعبة يومياً.
الخطة تقضي بتسهيل نقل الغاز المصري عبر الأردن وسورية وصولاً إلى شمال لبنان، مشيرة إلى أن المفاوضات جارية مع البنك الدولي لتأمين تمويل ثمن الغاز المصري وإصلاح خطوط نقل الكهرباء وتقويتها والصيانة المطلوبة لأنابيب الغاز. في نفس السياق وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتز اتفق مع نظيره المصري طارق الملا في فبراير 2021 على مد خط أنابيب لربط حقل لوثيان الإسرائيلي البحري للغاز الطبيعي بمحطات الإسالة في شمالي مصر على بُعد 130 كيلومتراً وحقل لوثيان يقع قُبالة ساحل إسرائيل، ويزود بالفعل سوقها الداخلي بالغاز ويصدره إلى الأردن ومصر، ومن مساهميه شيفرون وديليك للحفر، وبحث شركاء لوثيان خيارات توسيع المشروع، ومنها إقامة منشأة عائمة للغاز الطبيعي المسال أو خط أنابيب تحت البحر، إضافة إلى توقيع مذكرة تفاهم بخصوص مساعدة مصر في تطوير حقل غاز غزة مع شركاء المشروع، صندوق الاستثمار الفلسطيني، وصندوق الثروة السيادي التابع للسلطة الفلسطينية، وشركة اتحاد المقاولين، حيث يبعد حقل غاز غزة مارين نحو 30 كيلومتراً قُبالة ساحل القطاع وتشير التقديرات إلى أنه يحوز أكثر من تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، وكل هذا الغاز الذي سيتم إسالته في مصر يبحث عن أسواق، وقد وصلت صادرات الغاز الطبيعي المصري المسال إلى 1.6 مليار متر مكعب يومياً من مكافئ الغاز في الربع الأخير من 2020.
قال وزير الطاقة في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية ريمون غجر، إن وزارته لا تستطيع سداد ثمن الوقود اللازم لتوليد الكهرباء بعد شهر مارس، ما لم تتم الموافقة على المزيد من التمويل.
وقال غجر: "نحن ذاهبون إلى وضع صعب جداً؛ لأنه إذا لا يوجد فيول (وقود)، لا يوجد كهرباء"، مشيراً إلى أنه طلب من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب ورئيس البرلمان نبيه بري، الموافقة على قرض طارئ لشركة الكهرباء الحكومية بقيمة 1500 مليار ليرة لبنانية (996 مليون دولار بسعر الصرف الرسمي) لشراء المزيد من الوقود.
وكان غجر قال في وقت سابق من الشهر الجاري: إن لبنان عادة ما يحتفظ بوقود كافٍ لمدة شهرين إذ إنه من المكلف للبلاد الاحتفاظ باحتياطيات إستراتيجية تكفي ستة أشهر، ليزيد الأزمة الاقتصادية والمالية صعوبةً منذ نهاية الحرب الأهلية 1975-1990 حيث فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 80٪ من قيمتها مقابل الدولار، على الرغم من أن بعض المعاملات الرسمية لا تزال تجرى بسعر الليرة اللبنانية الرسمية قبل الأزمة وهو 1500 ليرة للدولار، بينما انخفضت القيمة السوقية للعملة إلى أكثر من 15 ألف ليرة.
البنك الدولي عبّر عن قلقه تجاه المشاكل التقنية التي تواجه قطاع الكهرباء في لبنان والتي ترتبط بانعدام الشفافية، وسوء إدارة القطاع وضعف الرقابة المؤسسية على قطاع الطاقة، مما يؤدي عدم القدرة على الاستمرار في التنفيذ التدريجي لبرامج الإصلاح والاستثمار، وقد أوصى التقرير بالتركيز على أربعة أبعاد؛ الحوكمة؛ وأمن الإمدادات؛ والاستقرار المالي؛ والاستدامة البيئية.
المطلوب من الحكومة اللبنانية الشفافية في مسألة قطاع الكهرباء، فهل هنالك عملياً -وليس صورياً- جهة تنظيمية مستقلة تتمتع بصلاحية حماية القطاع وتتمتع بالشفافية وجاهزة للمساءلة والقدرة على توفير التخطيط طويل الأجل والإشراف الفعّال، وضمان شراء محطات الطاقة الحرارية والمتجددة ذات الكفاءة على الفور بأقل تكلفة موثوقة التخطيط باستخدام عمليات شراء شفافة وتنافسية، فهل هذا ممكن في ظل التنافس الطائفي والمصالح الشللية الخاصة؟
فكرة البنك الدولي التي طرحها في تقريره "قطاع الكهرباء اللبناني خطة طوارئ 2020" بأن مصر والأردن لديها فائض في الطاقة الذي يعني بالنسبة لمصر توفُّر فائض في الغاز ولديهم الاستعداد لتصدير الكهرباء والغاز للبنان، ولكن هذا الاتفاق بحاجة لسورية للسماح بتدوير هذه الطاقة والغاز في البنية التحتية القائمة التي تمر عَبْر سورية؛ حيث يتوقع أن تنخفض تكلفة الكهرباء من ارتفاع يصل إلى 27 سنتاً أمريكياً / كيلووات ساعة، إلى حوالَيْ 16.4 سنت/ كيلو وات في الساعة بحلول عام 2022.
في حال تمكنت وزارة الكهرباء اللبنانية من تزويد اللبنانيين بكهرباء دون انقطاع فإن هذا سيقضي على الحاجة إلى الاعتماد على القطاع الخاص باهظ التكلفة والديزل الملوث المستخدم حالياً عبر المولدات الخاصة والتي تكلفته تصل إلى 30 سنتاً أمريكياً/ كيلو وات ساعة.
لكن السؤال كيف يمكن للبنان أن تؤمّن حوكمة مؤسسية دون حكومة قوية فاعلة؟ في حال تشكلت حكومة حقيقية أصلاً! وما الضمانة ألا يعطلها "الثلث المعطل"؟ ومن سيضمن أمنها إذا كان هنالك جيش حزب الله في الداخل فاعلاً أكثر من الجيش الوطني اللبناني؟ ومن سيؤمن الاستقرار المالي وحال غسيل أموال المخدرات والتهريب يعرفها القاصي والداني ولا يوجد قوة إلى الآن توقف هذه التجاوزات؟ هل لدى الحكومة ووزير الكهرباء اللبناني سحب الدعم الحكومي عن القطاع وتوفير مليار-مليارَيْ دولار؟ والحدّ من الغش وتوقف مسألة عدم السداد؟ يبدو أن لبنان لا مانع لديها من استخدام الغاز الإسرائيلي عن طريق مصر؛ لأنه حسب وزير الطاقة المصري فإن "استيراد الغاز من إسرائيل بلغ 200 مليون قدم مكعبة يومياً، فيما يتم تصدير الغاز المستورد من إسرائيل بالكامل" فهل هذا الغاز المستورد الذي سيمر من أرض "جبهة الصمود" السورية وتستقبله أرض "المقاومة" هو نفسه الغاز الإسرائيلي التي تصدره مصر بالكامل؟
عندها يكون هذا نوعاً جديداً من التطبيع الذي يصح تسميته "التطبيع الغازوي" والذي معه يصبح "الغاز مقابل السلام" بدل "الأرض مقابل السلام"!
الاتفاق الذي أعطته أمريكا المباركة ربما ستمنحه استثناءً من قانون قيصر مما يشكل اختراقاً سياسياً للنظام السوري ونجاحاً روسياً وإيرانياً إضافة إلى أنه سيدرّ دخلاً على حكومة النظام السوري من رسوم العبور واستخدام الأراضي السورية لمرور الكهرباء والغاز المصري، مما سيؤمن دخلاً -فيما لو دخل في الخزينة السورية أصلاً- يسدّ جزءاً بسيطاً من عجز الموازنة المتعثرة، وسيفتح باباً جديداً للفساد في لبنان وهي الدولة 149 من أصل 179 من حيث الفساد حسب منظمة الشفافية العالمية لعام 2020 بمعنى أنها أفسد ثلاثين دولة في العالم، وسيمرّ الغاز والكهرباء في سورية التي تموضعت في مرتبة أفسد دول كوكب الأرض فهي الدولة 178 من أصل 179 من حيث الفساد بعد الصومال وجنوب السودان، لذلك من المتوقع أن يصل لبنان الكهرباء ولكن ليس من المؤمل أن ينعكس أي دخل إضافي على رفع مستوى معيشة 90 بالمائة من السوريين الذين هم تحت خط الفقر، ذلك النظام السوري الذي انتصر أخيراً على 50 ألف مواطن في درعا البلد، وهدّم منازلهم، وحاصرهم أكثر من شهرين ثم أكمل "نصره المؤزر" بتهجير قسري جماعي لعشرات الألوف إلى شمال سورية، وبذلك يمكن مرور "غاز الصمود" و"كهرباء المقاومة" على جثث ودماء أبناء حوران بكل أمان على أراضيهم المحروقة الفارغة من أهلها!.