قرأت هذا الأسبوع روايةً للكاتبة ندى صالح بعنوان "عندما تبتسم الشمس" وكنت مُستغرِباً بعض الشيء من العنوان، حيث إن الشمس بعُرفنا الثقافي دائماً مبتسمة خاصة أن الكاتبة تعيش في نفس النطاق الجغرافي الذي نعيشه وغالباً ما تتمتع بلادنا بجوٍّ جميلٍ لا حارٍّ ولا بارد تغيب الشمس فيه مبتسمة وتشرق مبتسمة، فلما غصتُ في صفحات الرواية عرفتُ أنها تتحدث عن شمسٍ أخرى غير التي نعرفها وعن ليلٍ وظلمةٍ ونهارٍ من الأيام التي يعيشها المواطن العربي ليس على صعيد البيئة الطبيعية بل تلك الاجتماعية والسياسية.
كذلك الحال عند الموظف فهو يعمل ليبتسم، فالابتسامة جزء مهم من حياته المهنية ولا يصح أن يكون غير ذلك ففي قطاع الأعمال يُتداول مثلٌ صينيٌّ يقول: "من لم يستطع الابتسامة فلا يفتح دكاناً" وقد بات أصحاب الأعمال يدركون أن الابتسامة هي محور الجذب الرئيسي للزبائن، وقد صعدت في عالم الأعمال قواعد بات مجتمع الأعمال يرتكز إليها بقوة ويدافع عنها كقاعدة "الزبون دائماً على حق" التي تأتي في نفس السياق، ومن خلال اتصالك مع الشركات الكبرى وفروع خدمة العملاء تجد أن هذه القواعد غالباً ما يتم تطبيقها من خلال ابتسامة عريضة وترحيب واسع ومسايرة لكل الأذواق مهما كانت. بمعنى آخر كما في قوانين العلوم فإن الشمس وُجدت لتبتسم وتنقل الضوء لغيرها من خلال خدمات جليلة تقدمها للكائنات الحية فإن قوانين الإدارة تقول إن الموظف وُجد ليبتسم من خلال تقديم خدمات الشركة للزبائن المتعاملين معها.
ورغم هذه القواعد الإدارية الصارمة فإن الموظفين في عالمنا العربي نادراً ما يبتسمون لا بل إن بعضهم تستطلع الحزن على وجهه كما تقرأ في كتابٍ مفتوح، ويبدو أن هذا الأمر نتاجٌ لعوامل عديدة تبدأ من الرواتب المتدنية التي يحصل عليها العاملون ولا تنتهي بالضبابية السياسية والاقتصادية التي يعيشونها، لا شكَّ أن ظروف الأزمة الاقتصادية المصاحبة لانتشار جائحة فيروس "كورونا" شحن أجواء الأعمال بكثير من التوتر ورفع من معدلات الضغط النفسي والقلق ولكن وجود حكومات تؤمن بضرورة خدمة مواطنيها كسر حِدّة هذه المصيبة وأرسى الطمأنينة في نفوس المواطنين موظفين كانوا أو أصحاب أعمال، فقد لجأت حكومات معظم الدول لإعفاء الشركات من الضرائب وتأجيل دفع الفواتير بل وتسهيل عمليات الاقتراض ومنح علاوات، حتى أن بعض الدول دفعت للشركات الخاصة جزءاً من رواتب موظفيها، بل وحتى في تلك الدول التي كانت التعويضات الحكومية فيها قليلة تجد أن الحكومات عملت بشكل سريع على صيانة الظروف الملائمة لإعادة انخراط المؤسسات في عملية الإنتاج وتعويض خسائرها.
في بعض الدول العربية تذهلك صورة الجموع المحتشدة لساعات على شباك فرن للحصول على رغيف خبز، وهذا ليس وسط أزمة "كوفيد 19" وحَسْبُ بل تجد أن هذا جوٌّ عامٌّ في بعض الدول التي "تكركب" يوم الموظف وتجعل ابتسامته فقط عند حصوله على ربطةٍ من الخبز والمواد الأساسية ليعمل عقله طيلة اليوم بكيف سيحصل على قوت يومه التالي، وفي 2017 كان النظام السوري يسمح للموظفين فقط بالحصول على الخبز من فرن قريب من أحد المناطق المحاصَرة يسيطر عليه عناصره، وكان قد اعترض أحد الموظفين المنتظرين في الطابور منذ ساعات على تقديم عناصر الجيش لأحد الأشخاص على دوره فما كان منهم إلا أن ضربوه على رأسه بعصا حديدية فقدَ على إثرها حياته، ومنذ ذلك اليوم لم أرَ موظفاً يبتسم ممن شهد الواقعة، كما ظلت أمه تبكي لسنوات على الأقل في المرات التي كنت أتحدث معها على الهاتف للاطمئنان عليها.
الانقلابات العسكرية والظروف السياسية التي يعيشها العالم العربي لا تعد مزعجة وحَسْبُ بل مؤلمة، وتضغط على النفس والعقل وأعتقد أن أولئك الموظفين الذين يستطيعون أن يزرعوا البسمة على شفاههم يستحقون الثناء والتقدير بالفعل فهم يملكون روحاً عظيمة بلا شك. عندما يبتسم الموظف فهذا لا يعني أن حياته طبيعية وحَسْبُ، بل يعيش في ظروف سياسية واجتماعية وأمنية مستقرة، ويتقاضى راتباً يكفيه التفكيرَ بقوت يومه واحتياجاته، وعلى الرغم من أن الابتسامة قاعدة طبيعية في عالم الأعمال إلا أنها تبدو أصعب مما يتخيل البعض.