لم تعد طاولات المطبخ مخصصة لتحضير الطعام أو تناول وجبات ممتعة مع الأسرة، فمع انتشار فيروس "كوفيد-19" في مختلف أنحاء العالم تحولت طاولات المنزل المختلفة بما فيها طاولة المطبخ إلى مكتب عمل يمارس من خلاله الموظف أو الموظفة عمله عن بُعد واضعاً جهاز الكمبيوتر ومختلف المستندات التي غالباً ما تتداخل مع الصحون ومعدات المطبخ الأخرى لدرجة بات فيها مشهد اللاب توب في المطبخ اعتيادياً ويشبه وجود المايكرويف أو الفرن أو غيرها من الأدوات المنزلية، وفي ظل هذا التداخل والتشابك بين الأدوات نجد أن هناك نوعاً آخر من التشابك نشأ مع بداية انتشار هذا النوع من الأعمال بشكل واسع.
اختلاط الحياة العملية مع الحياة الشخصية بات إحدى سمات فترة ما بعد "كورونا" فتجد أن الموظفة تقوم بحضور اجتماع عمل بينما تحضر الساندويتش للأطفال، وقد يعد الموظف تقريراً إدارياً في الوقت الذي يقاطعه فيه ابنه ليطلب منه نصيحة أو مطلباً خاصاً، وأحياناً يقطع الأطفال الاجتماعات المباشرة ليصبحوا جزءاً من وقت التقاط الأنفاس الذي يأخذه الموظفون خلال جلسات الاجتماع المملة أحياناً.
هكذا يختلط كل شيء تقريباً ورغم أن علاقات العمل الرسمية تصبح أكثر سلاسةً وتقديراً وتتداخل هموم العاملين بشكل كبير مما يثير الكثير من التعاطف والتكاتف فيما بينهم، إلا أن جانباً سلبياً لهذا النوع من التداخل يطفو بوضوح على عالم الأعمال الجديدة، فغالباً ما لا يكون لدى الموظف وقت خاص للعمل وآخر للأسرة، فالمقاطعات التي تحدث خلال فترة العمل وسياسة الوقت المرن الممنوحة للموظفين ومطالبتهم بالإنجاز وليس ساعات العمل تجعلهم ملتزمين أكثر في تأدية مهامهم في كل وقت فراغ ممكن مما يحرمهم من جلسات ممتعة مع الأسرة أو الخروج مع الأولاد أو خدمتهم بشكل كامل، وقد ودَّع عدد كبير من الموظفين تلك السهرات الممتعة مع العائلة التي كانت تحصل عشية العطل، فالعطل أصبحت أيام عمل، وأيام العمل أصبحت عطلاً حتى تداخل كل شيء بطريقة طريفة أحياناً ولكنها مزعجة في أوقات أخرى.
في دراسة لشبكة "سي إن بي سي" للأعمال قالت فيها: إن الأمهات اللاتي يتابعن أولادهن بشكل دائم من مقر العمل يكنّ أكثر عرضة للاحتراق الوظيفي بنسبة 28% من بقية الموظفين مما يزيد فرص هذا الاحتراق عند الاحتكاك المباشر مع الأطفال والواجبات المنزلية، ولن يكون الأمر مقتصراً على السيدات فالرجال كذلك سيكونون أكثر احتكاكاً بالمنزل والعمل في وقت واحد مما يشتت انتباههم عن بعض المهامّ على الجانبين ويشعرهم بالتوتر والقلق، وبعد فترة من الزمن سُرْعان ما سيدرك الموظفون أن تركيزهم بدأ يضعف وأن ما يعتبرونه ميزة يختصون بها عبر العمل المرن ما هي إلا نِقمة حلت بهم قلبت ليلهم نهاراً ونهارهم ليلاً، وكسرت الخطوط الفاصلة بين عالم الأعمال وحقوق الأسرة والحياة الاجتماعية، بعض أصدقائي يخبرونني أن قدرتهم على تأدية زيارات للأصدقاء والأقارب انخفضت عند انخراطهم بأعمال منزلية إلى الصفر حيث لم يعودوا قادرين على تأدية أي دور اجتماعي بسبب تخصيص ذلك الوقت من الفراغ والصفاء للأعمال التي تتطلب تركيزاً.
عالم الأعمال الجديد فيه بعض المزايا التي تتعلق بمرونة أكبر وقدرة على تخصيص الأوقات من قِبل الموظف وليس الشركة ولكن على جانب آخر إذا تعامل الموظفون مع هذه الحالة على أنها حالة طارئة ستنتهي بعد أسابيع فهم مخطئون، فالقضية قد تصبح نهجاً دائماً مُتبنًّى من معظم شركات العالم، وعليهم أن يخططوا لها بشكل ناجح بحيث يخصصوا لكل جانب حقه، ويتعودوا أن يغلقوا أجهزتهم المحمولة ويطفئوا شبكة الإنترنت في أوقاتهم المخصصة للعائلة وكذلك عليهم بأن يخصصوا وقتاً للحياة الاجتماعية وممارسة الرياضة لكي يحافظوا على حياة متوازنة وسليمة وإلا كانت النتائج كارثية على الأسرة بشكل عامّ وليس فقط على الموظف.