لم يدّخر سوريون حول العالم جهداً خلال الأيام الماضية في الحديث عن المكتبات المُندثِرة، طيلة العقود السابقة، وليس فقط في مرحلة ما بعد عام 2011، مع دمج مثير تفرضه اللغة العربية، حين تجمع كلمة “المكتبة” بين المكان الذي نحفظ فيه كُتبنا الشخصية، وبين مكان بيعها، على عكس لغات أخرى تميز بين المكانين عَبْر تسميات مختلفة.
الحديث هنا يجري وَفْق إيقاع رثائيّ، يُبنى على تأبين الماضي، والنظرة بحزن فجائعيّ صَوْب المستقبل! وفي التفاصيل تصبح المكتبة كائناً عاقلاً، مات على حين غفلة، أو تم اغتياله، على يد عصابة فاتكة، قِوامُها؛ الحداثةُ وقيم الاستهلاك التي أَمْلَتْ توجُّه الكثيرين إلى التهام المنتجات المرئية والمسموعة (تلفزيون، سينما) بدلاً من القراءة، وفي طَوْر آخر من أطوار الحزن الشديد، ستتم إدانة الإنترنت، والنشر الإلكتروني، وصولاً إلى القرصنة، التي تؤدي فِعلياً إلى خسائر للناشرين، والمؤلفين!.
من بُؤرة جُرْح مفتوح كهذا، يتملك البعض موجته الخاصة التي تتلاقى مع الوضع العامّ الذي تعيشه سورية راهناً، فيصبح رثاء مكتبة “نوبل” التي تسبَّب إغلاقها بحفلة النواح هذه، مدخلاً للتباكي على البلد كله، بالنسبة لمن لم يرَوْا مآسيها أو تجاهلوها خلال العَقْد السابق، وإضافة مهمة للذين يحدثونك يومياً عن الخراب، ليس فقط في سنواته الأخيرة، بل عبر عقود سابقة!.
الجمعان، ورغم الخلاف الحاصل بينهما، والذي يتصل بموقفهما من الثورة والنظام، يتلاقيان مع موجة عالمية، وأخرى عربية، بُنِيَتَا على تقدير الرفوف، والنظر إليها كمنبع للأفكار والحَيَوات والثَّوْرَات.
يُحال تأسيس الأولى منها إلى بعض كُتّاب أمريكا اللاتينية، الذين أسهبوا في تطوير الأفكار الجميلة عن المكتبة، من خورخي لويس بورخيس وحتى ألبرتو مانغويل، وغيرهما.
بينما تُستعاد محتويات الموجة العربية من عمق التاريخ ليتم وصلها بالحاضر، فتبدأ مع الروايات التاريخية عن حرق مكتبة الإسكندرية إبّان الفتح الإسلامي لمصر، وتدمير مكتبة بغداد على يد المغول، الذي دمَّروا مكتبة قلعة (ألموت) الإسماعيلية أيضاً.
وصولاً إلى حوادث أخرى في الزمن الحاضر، أو في التاريخ القريب، فمثلاً لا يمكن أن يفتح الحديث عن القضية، دون ذكر قيام الإسرائيليين بالاستيلاء على مكتبات الفلسطينيين الذين هجروا بيوتهم في أيام النكبة عام 1948، وأيضاً سرقتهم لأرشيف مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت أثناء غزوهم للبنان عام 1982. على مستويات شخصية، سنتذكر ما كتبه القاصّ والمسرحي نجم الدين سمان عن مكتبة جده، حينما قامت عمته بحرقها، خوفاً من أن تتسبب للعائلة بمشكلة أثناء مداهمات عناصر المخابرات للبيوت في مدينة إدلب، بحثاً عن عناصر وأسلحة عناصر تنظيم الطليعة المقاتلة، في مرحلة الصراع بينه وبين النظام، وسنذهب مع نجم أيضاً حين يربط بين هذه الحادثة وبين استيلاء عناصر من جيش النظام على بيته الذي كان يطلّ على بساتين داريا، وقيامهم بحرق كل الورق فيه من أجل التدفئة، خلال حصارهم للبلدة!.
وعلى مسافة بعيدة من ريف دمشق، يبكي كثيرون كنوزهم الثقافية والأدبية التي تركوها وراءهم خلال نزوحهم، أو رحيلهم مضطرين، وأيضاً سيتذكر آخرون مثيلاتها التي حُرقت أو دُمِّرت أثناء قصف النظام للمدن والبلدات بالبراميل المتفجرة، كما ستبقى عالقة في النفوس كجُرْح لا يطيب مصائر تلك التي حرقها الدواعش في المناطق التي سيطروا عليها، أو تلك التي نهبها “العفيشة” وعناصر النظام معاً في كل مكان دخلوه، فتاجروا بها حتى وصلت إلى أرصفة المدن، حيث يروي البعض مأساته، عندما سيكتشف أن كتبه المسروقة تُباع أمامه!.
ضِمن هذه الدائرة، ووسط السواد الكالح نتذكر تجربة المكتبة السرية في داريا، عندما جمع الناشطون كتب البيوت المدمرة، وخلقوا فضاءً سرياً للقراءة، طيلة فترة حصار المدينة، لكن الذكرى سُرْعان ما تتلوَّن بالسواد حين نعرف أن قوات النظام نهبتها، وانتهت محتوياتها إلى مصير مجهول!.
بعيداً عن مَآسِي السوريين الحارّة، سنعود إلى قضية إغلاق المكتبات، وهي المحرك الأساسي للقضية، فنتذكر أن إغلاق مكتبة “نوبل”، ليس هو أول الإغلاقات، بل هو جزء من سياق عامّ، يشمل كل بلدان العالم، وهو من تأثيرات التطور العامّ، الذي لا يمكن مواجهته بشكل إفرادي، دون معونة ودعم المؤسسات العامة. فصناعة النشر، والمكتبات هي جزء منها، تعاني ما تعانيه حول العالم، ويصير أن تتجه الأمور نحو الأسوأ مع أزمات عابرة للحدود والقارات مثل انتشار فيروس كورونا “كوفيد 19″، الذي أدى إلى إغلاق الأسواق التجارية لفترة طويلة، ما دفع بأصحاب مكتبات مشهورة إلى إغلاقها تجنُّباً للخسائر الإضافية.
حدث هذا في “ستراسبورغ”، حيث أعيش، فقد رأيت كيف أغلقت مكتبة شهيرة في ساحة (بروغلي)، كما لاحظ أصدقاء شيئاً مُشابِهاً في باريس، وغير مكان حول العالم!
رغم ذلك، تبدو القصة السورية أو الجزء المحلي من مآسي المكتبات حول العالم، فرصة راهنة لطرح المظلومية، خاصة أن البلاد واقعة تحت تأثير كارثة شاملة، أدت -وما زالت- إلى حدوث موجات هجرة متعددة، تتفاقم مع انسداد أُفق تحسُّن الحياة في المناطق التي يسيطر عليها النظام، والتي باتت وَفْق تشبيهات مؤيديه أنفسهم ناراً جهنمَ، لا تحرق الكتبَ فقط، بل تُفني مقومات وجود البلاد وشعبها معاً!
لكن العنصر الغائب، في كل ما تمت كتابته أو جرى قوله ضِمن تضاعيف القصة، ويرتبط بالمشكلة السورية تاريخياً، هو علاقة السياسة بصناعة النشر، وكل تفاصيلها.
إذ لم يَلفت أحد الانتباه إلى أن السوريين، وبالقرب من المكتبات التي كانت مفتوحة حتى وقت قريب، كانوا ينسحبون من حياتهم المشتركة، ليَتَقَوْقَعُوا على أنفسهم، بسبب تدمير النظام للفضاء العام، واحتكاره لكل المساحات التي يمكن أن يتقاطعوا فيها؛ فحيث لا وجود لحياة حزبية، تنافسية، ولا وجود للإعلام الحر، ومع احتكار مؤسسات تابعة له للسياق الثقافي، والفني والعلمي، وتراجع مستوى التعليم من الابتدائية وصولاً إلى الجامعة، سيصل السوريون إلى مراتب أدنى من المستوى الصفري في كل شيء، وسيظهر غياب حركة التأليف، أو تراجُعها بشكل مُطَّرِد، وبعلاقة طرديّة مع كل شيء في المجتمع، مجرد تفصيل، في الدمار الشامل الذي صنعه الأسديون! ضِمن واقع كهذا، وغياب المؤلفات المحلية عن الواجهات، وعدم اهتمام الناس بما تعرضه المكتبات التي لا تملك من أمرها شيئاً، ما دامت أنها لا تستطيع إجبار المؤلفين المستنكفين على الكتابة، أو على دفعهم إلى تأليف كتب يهتمّ بها مواطنوهم، وأيضاً عدم قدرتها على جعل الكُتاب الناشطين في الخارج ينشرون مؤلفاتهم في بلدهم، ما دام أن مصائرهم -وليس نتاجهم فقط- مرتبطة بوجود الاستبداد وقمعه لهم، فإنه لن يكون من المستغرب انتهاء مصيرها على هذا الشكل أو ذاك.
من أجل كل ما سبق، ومع التأكيد أن كل إنسان هو مكتبة، ليس بالمعنى الثقافي فقط، بل بكل المعاني الممكنة والمحتملة، فإن الدفاع عن المكتبات يبدأ بالحديث عن السوري “الميّت” رغم أنه على قيد الحياة، ولا ينتهي باستخدام الحقائق حين يتوجب الرثاء!