تم فصل سنغافورة من الاتحاد الماليزي عام 1965 وبكى حينها لي كوان حيث شعر بالمهانة والعجز، وأن سنغافورة دولة غير مرغوب بها، وهي وحيدة أمام التحديات الاقتصادية والبشرية الهائلة مع بنية تحتية منهارة وفقر وانعدام الموارد الأولية وكذلك عدم وجود صناعة كبيرة حاملة للاقتصاد ومستوى معاشي منخفض وقوة شرائية بائسة للشخص السنغافوري.
تقع جمهورية سنغافورة التي يسكنها 5.7 مليون نسمة في الطرف الجنوبي لشبه جزيرة الملايو وهي أصغر دولة في جنوب شرق آسيا، وهي دولة تتكون من 63 جزيرة تبلغ مساحتها 697 كيلومتراً مربعاً فقط (بما في ذلك الأراضي المستصلحة من البحر). تتمتع بمناخ استوائي، وموقعها الإستراتيجي على طرق التجارة البحرية والجوية جعلها مركزاً عالمياً مهماً للشحن والنقل.
هناك حوالَيْ ثلاثة ملايين مقيم من أصل صيني في سنغافورة، وتعد سنغافورة مجتمعاً متعدد الأعراق، حيث يتم تصنيف السكان إلى أربع مجموعات عرقية رئيسية: الصينية أكثر من ثلاثة ملايين والماليزية أكثر من نصف مليون والهندية أكثر من ثلاثمائة ألف وغيرها أكثر بقليل من 120 ألفاً.
عندما أسس السير توماس ستامفورد بينجلي رافلز ( 1781-1826) سنغافورة عام 1819 حيث كان يومها نائب حاكم جزر الهند الشرقية الهولندية، وهي جزيرة غير مأهولة تبلغ مساحتها 225 ميلاً مربعاً، كانت تتمتع بموارد طبيعية قوية والسبب الرئيسي هو موقعها المهم عند المدخل الجنوبي الضيق لمضيق ملقا، وبالتالي السيطرة على إحدى بوابتين في العالم بين المحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي؛ وهذا موقع قيادي في المنطقة المحيطة؛ وميناء طبيعي رائع.
التفت لي كوان لهذه النقطة وبنى على الرؤية البريطانية لدولته، والحقيقة أن وفرة حمولة المحيطات جذبت نسبة عالية من صادرات المنطقة إلى سنغافورة، حيث نمت تجارة سنغافورة بين عامَيْ 1871-1873 و1900-1902 بأكثر من ستة أضعاف، من متوسط سنوي قدره 67 مليون دولار سنغافوري إلى 431 مليون دولار سنغافوري.
هذه الزيادة القوية في الطلب بالنسبة للمنتجات الأولية ساعدت على نمو مدن الموانئ الرئيسية لخدمة تصدير هذه السلع، فالموانئ التي نمت كجزء من هذا التخصص كانت قليلة بشكل مشابه، وشملت المنافذ الرئيسية رانغون وكولومبو في آسيا، وساو باولو وبوينس آيرس في أمريكا اللاتينية، ولاغوس وأكرا في إفريقيا ويبدو أن هذا النمط الاقتصادي ناسب سنغافورة.
كان التصنيع مسؤولاً إلى حد كبير عن مرحلة جديدة من النمو الاقتصادي السريع للغاية ففي عام 1967 م، شكّلت الصناعات التحويلية 16.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ولكن في عام 1980 (عندما بلغت مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي ذروتها) 23.9 في المائة، بينما ارتفع الناتج المحلي الإجمالي خلال نفس الفترة (بتكلفة عام 1968) 3.5 مرة ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ثلاثة أضعاف تقريباً. بحلول عام 1983، سنغافورة -بشكل أساسي على أساس التوسع في التصنيع- احتلت المرتبة الثانية والعشرين في العالم من حيث نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي (6620 دولاراً أمريكياً)، متقدماً على إيطاليا مباشرةً، ليس بعيداً جداً عن نيوزيلندا في المركز العشرين، ومع بعض الأمل في تجاوز المملكة المتحدة في الثامن عشر، وكان متوسط العمر المتوقع عند الولادة 72.3 سنة تقريباً نفس الشيء كما في المملكة المتحدة.
السياسة الحكومية السنغافورية الرشيدة والوطنية الحازمة كانت وراء تلك المعجزة الاقتصادية وواحدة من أهم تلك السياسات هي تفعيل دور صندوق الادخار المركزي “سي بي إف”، هو اسم مخطط الضمان الاجتماعي في سنغافورة حيث يغطي الرعاية الصحية والتقاعد وملكية المنزل. ويختلف معدل المساهمة الإجبارية في الصندوق حسب العمر ونطاق الأجور وحالة الموظف (أي مواطن سنغافوري أو مقيم دائم).
يتم خصم حصة الموظف من مساهمة “سي بي إف” من راتبه من قِبل صاحب العمل أثناء معالجة كشوف المرتبات الشهرية. يُطلب من صاحب العمل بعد ذلك دفع نصيب صاحب العمل والموظف من مساهمات “سي بي إف” شهرياً لجميع الموظفين (المواطنين السنغافوريين والمقيمين في سنغافورة) بالمعدلات المنصوص عليها في قانون “سي بي إف”.
على سبيل المثال يتم اقتطاع 17 بالمائة من دخل أي عامل تجاوز الـ750 دولاراً تحت عمر الـ55 عاماً ويضع صاحب العمل 20 بالمائة إضافية في الصندوق وما بين عمرَيْ 55 و 60 يضع العامل 14 بالمائة ورب العمل 14 بالمائة.
بناء على ما سبق وصل معدل الادخار الإجمالي في سنغافورة بنسبة 45.8٪ في ديسمبر 2020، وهي واحدة من أعلى معدلات الادخار في العالم وتوضع هذه الادخارات تجاه مسألة الصحة والتعليم والتقاعد والسكن وهو الأهم والذي جعل المواطن في سنغافورة من أكثر المواطنين في العالم شعوراً بالاستقرار.
تعدّ السياسة الحكومية الخاصة بحيازة الأراضي واحدة من أهم السياسات في سنغافورة في بداية نهضتها، حيث تم تقديم قانون حيازة الأرض في 17 يونيو 1967 لتزويد الحكومة بالإطار القانوني للحصول على الأراضي الخاصة بشكل إلزامي بأسعار السوق. وكان الهدف الرئيسي للقانون هو إتاحة الأرض بسهولة وبتكلفة زهيدة للمشاريع السكنية والتجارية والصناعية للهيئات العامة مثل مجلس الإسكان والتنمية “إتش دي بي”، وهيئة إعادة التطوير الحضري “يو آر أي” وشركة جورونغ تاون كوربوريشن جي تي سي .
مكّن قانون حيازة الأراضي لعام 1967 الحكومة من تكثيف برنامج حيازة الأراضي، وواقع الأمر بين عامَيْ 1959 و 1984، استحوذت الحكومة على ما مجموعُه 43713 فداناً من الأراضي، والتي شكلت حوالَيْ ثلث إجمالي مساحة الأراضي في سنغافورة في ذلك الوقت. أصبحت الحكومة أكبر مالك للأراضي بحلول عام 1985، حيث امتلكت 76.2 في المائة من الأراضي في سنغافورة، أي أكثر من ضعف نسبة 31 في المائة في عام 1949.
بين عامَيْ 1963 و 1985، بنى إتش دي بي أكثر من 500000 شقة لتوفير الإقامة بأسعار معقولة لأكثر من 80 في المائة من إجمالي سكان سنغافورة، وفي المجموع، كان هناك حوالَيْ 3070 مصنعاً في العقارات توظف حوالي 217000 عامل أو 70 في المائة من القوى العاملة الصناعية في سنغافورة .(حسب وزارة الثقافة السنغافورية 1985)
إلى جانب السماح ببناء مساكن ومجمعات صناعية ميسورة التكلفة، فإن حيازة الأراضي الأرخص والأكثر فعالية سمحت أيضاً بتخطيط حضري أفضل. استفاد هذا من خطط إعادة تطوير يو آر أي وسابقتها، وإدارة إعادة التطوير الحضري، في المنطقة الوسطى، مما أدى إلى نمو المنطقة التجارية في وسط مدينة سنغافورة، وبناء عليه فإنه في عام 2020، بلغ معدل ملكية المنازل في سنغافورة حوالَيْ 87.9٪ من السكان.
سنغافورة لديها معدل ملكية مرتفع يرجع إلى حد كبير إلى مخطط الإسكان العامّ الناجح في إطار مجلس تنمية الإسكان إتش دي بي، وصلت نسبة المواطنين المالكين لبيوتهم في سنغافورة عام 2018 إلى 91 بالمائة وربما هذه أعلى نسبة في العالم، وهي تعطي روح الاستقرار الاقتصادي والمعاشي للمواطن وتدفعه للعمل والإنتاج والعلم؛ لأنه مرتاح لمسألة السكن، ولا يسكن في عشوائيات ولا يستأجر بيتاً ويظل تحت رحمة ارتفاع الإيجارات ويظل مهدداً هو وأهله وأولاده بشكل دائم.
اتخذت الحكومة السنغافورية إجراءات حازمة في تطبيق سياساتها القانونية ومحاربة الفساد والبيروقراطية دون أي تهاوُن مما جعلها الدولة الثانية لعام 2020 في العالم حسب البنك الدولي في سهولة إقامة أي عمل أو مشروع حسب تقرير دونغ بزنس 2020 للبنك الدولي، وعملياً فإن مؤشر إقامة عمل/مشروع “بزنس” يتكون من عشرة مؤشرات من مثل تطبيق وفرض العقود “إنفورسنغ كونتراكتس” التي احتلت سنغافورة على هذا المؤشر الرقم الأول في العالم، وهي الرابع في العالم من حيث مؤشر سهولة البدء بأي مشروع بسبب تسهيل الأمور البيروقراطية ومراقبة الحكومة لبلادة أي موظف حكومي، أو وضع أي قانون يؤخر أو يعرقل الابتداء بأي مشروع وهي سياسة حكومية مذهلة، وهي الخامسة في العالم من حيث التعامل مع تصاريح الإنشاءات والتعمير، والثالثة في العالم حمايةً للمستثمرين الذين ينتمون للأقليات، والسابعة في العالم من حيث سهولة دفع ضرائب المستثمرين.
كذلك احتلت سنغافورة المركز الأول في العالم على مؤشر الحرية الاقتصادية كي تهيئ أفضل مناخ للاستثمار في العالم، وهذا المناخ الاستثماري الرائع جذب أنظار المستثمرين في العالم حيث حافظت سنغافورة على المركز السابع في العالم منذ عام 2013 حسب تقرير “مؤشر جاذبية بلد الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي 2020” ووصل حجم الاستثمار الأجنبي المباشر عام 2019 إلى 110 مليارات دولار وكانت الثالثة في العالم من حيث حجم الاستثمار بعد الولايات المتحدة والصين حسب تقرير 2020 لـ “الأونكتاد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية”.
كل ما سبق لم يكن ليتحقق بدون نظام تعليمي راقٍ، وسنغافورة هي إحدى قصص النجاح في آسيا، حيث حولت البلاد نفسها من دولة متخلفة إلى اقتصاد صناعي حديث، وخلال هذه الثورة النهضوية، لم يتخلف نظام التعليم في البلاد عن الركب.
يعتبر النظام المدرسي في سنغافورة الأفضل في جميع أنحاء العالم، وهذا لا يقتصر فقط على المدارس الثانوية ولكن أيضاً على المستويات الجامعية، حيث تحتل جامعة سنغافورة الوطنية المرتبة الأعلى في آسيا وتتفوق على المؤسسات المشهورة في جميع أنحاء العالم.
لا يخفى على أحد أن هذا النجاح يمكن أن يُعزى إلى حقيقة أن التعليم السنغافوري، منذ البداية، لعب دوراً مركزياً في تنمية اقتصاد الدولة، حيث تمتلك أعلى نسبة من الطلاب في التصنيف الدولي، وفقاً لبرنامج OECD لتقييم الطلاب الدوليين (PISA). عِلاوة على ذلك، تم تصنيف سنغافورة بين الدول الأعلى تصنيفاً في الرياضيات والعلوم.
اختبر برنامج التقييم الدولي للطلاب “بيسا 2015” الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أو إي سي دي حوالَيْ 540.000 طالب في سن 15 عاماً في 72 دولةً واقتصاداً في العلوم والقراءة والرياضيات وحل المشكلات.
بينما زاد الإنفاق على كل طالب في التعليم الابتدائي والثانوي بنسبة 20٪ تقريباً منذ عام 2006 في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وحدها، شهدت 12 دولةً واقتصاداً فقط من بين 72 دولةً واقتصاداً تم تقييمها في برنامج التقييم الدولي للطلاب تحسناً في أدائها العلمي خلال هذه الفترة، وعلى رأس هذه الأنظمة التعليمية عالية الأداء سنغافورة وماكاو (الصين)، وذات الأداء المنخفض، مثل بيرو وكولومبيا.
يؤدي حوالَيْ 1 من كل 10 طلاب في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وواحد من كل 4 طلاب في سنغافورة، أداء على أعلى مستوى في العلوم.
هنالك في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أكثر من طالب واحد من كل خمسة طلاب يفتقر إلى الكفاءة الأساسية: فقط في كندا وإستونيا وفنلندا وهونغ كونغ (الصين) واليابان وماكاو (الصين) وسنغافورة وفيتنام يتقن تسعة طلاب على الأقل من كل عشرة الأساسيات التي يجب أن يعرفها كل طالب قبل مغادرة المدرسة.
أدركت الحكومة السنغافورية مكانتها الإستراتيجية، حيث إنها مركز تجاري دولي رئيسي بسبب موقعها المركزي في جنوب شرق آسيا، وتعد مركزاً عالمياً لإعادة الشحن، وسجل مطار شانغي السنغافوري أداءً قوياً في عام 2016، مع زيادة إنتاجية الشحن الجوي بنسبة 6.3٪ ليصل إلى مستوى مرتفع جديد يبلغ 1.97 مليون طن متري من حيث إنتاجية الشحن الجوي .
من المتوقع أن يصل سوق الشحن والخدمات اللوجستية في سنغافورة إلى قيمة سوقية تبلغ 114.81 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2023، وقد تطورت سنغافورة لتصبح مركزاً رئيسياً للشحن العابر للمنطقة الآسيوية، وتتميز ببنية تحتية متطورة للموانئ ووصلات قوية لشحن الحاويات. فيما يتعلق باتصال الخطوط الملاحية المنتظمة، تحتل البلاد المرتبة الثانية عالمياً برصيد 122.7 درجة بعد الصين (167.5).
لقد ضمنت اتصالات الموانئ القوية والمتطورة لعب دور عالمي رئيسي، حيث احتلت سنغافورة المرتبة الأولى عالمياً، من حيث إنتاجية الحاويات.
السياسات الحكومية الحازمة والتي تحارب كل أنواع الفساد والبيروقراطية والارتقاء بالخدمات للمواطنين بتأمين عقارات بأسعار مناسبة جداً بحيث لا يبقى مواطن لا يملك بيته، مع حفاظه على أصول سيادية للدولة وصلت إلى أكثر من 700 مليار دولار وإن هبطت مؤخراً إلى 545 مليار دولار حسب معهد صندوق الثروة السيادية.
يضاف إليها تأمين تعليم راق وصل ليكون أرقى تعليم في العالم هيَّأ الأجواء للانفتاح على العالم ومع الاستفادة من الموقع الإستراتيجي لسنغافورة بذكاء وعبقرية جعلتها السابعة عالمياً على مؤشر الأداء اللوجستي في العالم عام 2018 حسب البنك الدولي وتنافس لأن تكون الأولى في العالم.
الرشادة الحكومية واحترام كرامة المواطن والمقيم والانفتاح على العالم، إضافة للاعتناء بالإنتاجية حيث أقامت الحكومة السنغافورية في عام 1996، “مجلس الإنتاجية والمعايير في سنغافورة” الذي عمل على رفع الإنتاجية التي هي طريقها الوحيد للمنافسة واستمرار النمو الاقتصادي هو الذي كان وراء نهضة سنغافورة العبقرية، حيث في عام 2019، صدرت سنغافورة ما مجموعه 301 مليار دولار، مما يجعلها رقم 18 كمصدر على مستوى العالم،
أهم الصادرات الدارات المتكاملة إنتغريتيد سركيتس (55.4 مليار دولار) والبترول المكرر (43.1 مليار دولار) والذهب (11.5 مليار دولار) وتوربينات الغاز (10.3 مليار دولار) والأدوية المعبأة (7.26 مليار دولار). الوجهة الأكبر لصادرات سنغافورة هي الصين (45.8 مليار دولار) وهونغ كونغ (39.1 مليار دولار) وماليزيا (28.2 مليار دولار) والولايات المتحدة (24.8 مليار دولار) وإندونيسيا (19.8 مليار دولار).
أي دولة تسعى للنهوض تحتاج وعيَ ووطنيةَ لي كوان يو – الأب المؤسس لسنغافورة الحديثة- وتحتاج أن تتعلم من سعيه الحقيقي للحكم الرشيد وليس بالشعارات الفارغة، وتمتينه للطبقة الوسطى وليس إهمالها أو محاربتها أحياناً للأسف، والنهوض بمهاراتهم وتأهيلهم في مدارس مهنية راقية ونظام تعليمي عصري، مع تمتين العلاقات مع العالم وتهيئة أجواء استثمارية لرؤوس الأموال الأجنبية والوطنية، وهي العوامل التي كانت وراء ارتفاع ناتج الدخل القومي في سنغافورة من 700 مليون دولار عام 1960 إلى 370 مليار دولار عام 2020، وكذلك ارتفاع حصة الفرد من ناتج الدخل القومي من 3500 دولار إلى 59 ألف دولار لنفس الفترة.