مع هبوب رياح التغيير التي تم التعارف على تسميتها بـ "الربيع العربي" زادت حِدَّة الصراع والتبايُن بين السعودية وإيران، إذ سعت الأولى لاحتواء موجات الربيع العربي فيما قامت الأخيرة بدعمها معتبرة إياها "صحوة إسلامية" وامتداداً للثورة الإيرانية، إلا أن وصول رياح التغيير إلى الحليف السوري قلب النهج الإيراني إلى نقيضه فيما تكرس النهج الجديد في مواجهة المكتسبات الهزيلة للثورة اليمنية من خلال دعم طهران للحليف الحوثي، مما عقّد الصراع السعودي الإيراني ونقله من دائرة الوكلاء إلى الصراع المباشر بموجب التدخل العسكري السعودي ضِمن تحالف دعم الشرعية في اليمن.
بلغ التوتر ذروته في إغلاق مقر البعثات الدبلوماسية السعودية في مشهد وطهران وقطع العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين على إثر قيام متظاهرين إيرانيين مدعومين من الحرس الثوري بالاعتداء على مقار البعثات السعودية على خلفية إعدام المملكة لرجل الدين السعودي الشيعي، نمر النمر ورفع طهران لقميص النمر ضمن سياسة التوظيف الأيديولوجي لمشروعها الإقليمي.
مع إعلان الجانبين عن محادثات يأملان منها التوصل إلى توافُق يُنهي حالة الصراع القائم بينهما أو يُخفِّف حِدَّته وما يخلّفه من هدوء على العديد من ساحات الصراع القائمة في المنطقة، يبدو من المفيد سرد المحطات التاريخية لعلاقة الدولتين .
ثأر قديم
أنهت الجيوش الإسلامية الإمبراطورية الفارسية الساسانية خلال حكم الخليفة الأول والثاني للمسلمين، إلا أن الخلاف الذي نشأ على إثر مقتل الخليفة الثالث أنشأ معه جماعةً تعتقد بوجوب الخلافة لعلي بن أبي طالب ابن عم الرسول، صلى الله عليه وسلم، وصهره ولذريته من بعده، وهو خلاف شقَّ صف المسلمين وتم توظيفه لغايات سياسية خلال حقب تاريخية متعاقبة كان أوضحها الاستخدام الصفوي للبُعد المذهبي في مواجهة الإمبراطورية العثمانية، ومع قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 تم استحضار هذه الخلاف وتكريسه ضِمن الإستراتيجية العامة للجمهورية الإيرانية بعد تطوير روح الله الخميني لنظرية الإمام الكركي القائمة على التزاوج بين الفقيه والسلطان، فيما وحّد الخميني بينهما ضِمن مسمى (ولاية الفقيه)، السلطان الفقيه-الفقيه السلطان مُنصباً نفسه أميراً على المسلمين وحامل لواء الدفاع عن المستضعفين من خلال مبدأ (تصدير الثورة).
شاه وسلطان
يرجع أول اتصال رسمي بين السعودية وإيران للعام 1925 أي قبل تأسيس المملكة الذي تم في العام 1931 من خلال سعي "الشاه رضا بهلوي" للوساطة بين الملك عبد العزيز، سلطان نجد، وعلي بن الحسين، ملك الحجاز إبان حصار القوات السعودية لمدينة جدة، قام بعدها الشاه باحتلال عربستان مما لفت انتباه الملك السعودي لمغزى الوساطة الإيرانية التي تصبّ في مجرى المطامع الفارسية في الخليج.
العلاقات السعودية مع إيران الشاه
نتيجة لما تم ذكره أعلاه نُثرت بذور التوتر بين الجانبين زاد حدّتها تبايُن مواقفهما بالنسبة للخليج عموماً والإمارات العربية والبحرين خصوصاً، إذ ينظر الإيرانيون إلى الخليج العربي باعتباره بحيرة فارسية، شهدت العلاقة بعض التقدم لاحقاً فأدت للتوقيع على اتفاقية صداقة عام 1929 التي أرست أسس العلاقة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية بين الدولتين.
بعد عودة الشاه محمد رضا بهلوي إلى طهران عام 1953 وصعود الملك سعود بن عبد العزيز عرش المملكة، شهدت العلاقات الإيرانية السعودية تطوراً إيجابياً أسهم في تعزيزها المواقف المشتركة للجانبين فيما يتعلق بالدور البريطاني في الخليج العربي واستيلائه على واحة البريمي، حيث وقفت إيران إلى جانب المملكة في شكواها المقدمة إلى مجلس الأمن بخصوص واحة البريمي، على أمل وقوف المملكة إلى جانب طهران في شكواها من معاملة البريطانيين للإيرانيين في البحرين وقاوم العاهلان، السعودي والإيراني المحاولات السوفيتية الساعية للتسلل إلى الشرق الأوسط واتخذا موقفاً موحداً من الأزمة اللبنانية والثورة العراقية التي أطاحت بالنظام الملكي، غير أن الاعتراف الإيراني بإسرائيل ترك أثراً سلبياً في علاقة الجانبين لم يتم تجاوُزه إلا بإيضاح إيران لموقفها مباشرةً للجامعة العربية عبر وعدها بعدم الاعتراف القانوني بإسرائيل، ساهمت السياسات "الثورية" للرئيس المصري، "جمال عبد الناصر" بتوثيق العلاقة السعودية الإيرانية عن طريق تعاوُن الطرفين في مُواجَهتها، وبلغ التعاون ذروته في تقديم طهران الدعم العسكري للرياض التي دخلت اليمن لدعم النظام الملكي، إذ اعتبر الشاه "أن هذا التدخل (المصري) إنما يستهدف المملكة العربية السعودية كما يسعى للسيطرة على نفط شِبه الجزيرة العربية".
لم يمنع اختلاف وجهات النظر في القضايا الإقليمية والدولية من تكريس مبدأ التفاهم المشترك، كأساس للعلاقات الثنائية بين الرياض وطهران، بحيث ينظر كل طرف بهدوء وحَذَر للمسائل التي من شأنها أن تُحرِج الطرف الآخر، وهو ما أسهم في تجاوُز النزاع الحادّ الذي نشأ نتيجة قرار الرياض عام 1968 بضم جهودها إلى جهود الكويت والبحرين من أجل مواجهة التطورات المتوقعة للقرار البريطاني القاضي بالانسحاب من الخليج في موعد أقصاه نهاية عام 1971 وهو ما فسّرته إيران بالعداء تجاهها مما أدى لإلغاء الزيارة المقررة للشاه إلى الرياض قبل يومين من موعدها، وقد ساهمت التصريحات السعودية عقب زيارة العاهل البحريني، "عيسى بن سلمان آل خليفة" إلى الرياض في تعزيز هذا التفسير من قِبل طهران حيث أكدت المملكة على عروبة البحرين فيما تداولت مواقع إعلامية الحديث عن جسر بري عَبْر الخليج لربط السعودية بالبحرين.
لعب العامل الاقتصادي دوراً في التقريب بين الجانبين من خلال مواءمة سياسة البلدين ضِمن إطار منظمة الدول المنتجة للنفط، كما وفرت المظلة الأمريكية التي يستظلها كِلا البلدين مساحة للتعاون بينهما وتخطي نتائج الصدمات التي تعرضت لها العلاقة في بعض الأحيان.
إيران الثورة – الأزمة
لم تفشل إيران الثورة في تبديد الهواجس الخليجية الناشئة عن الطموحات الشاهنشاهية فقط، بل ضاعفتها من خلال مبدأ (تصدير الثورة) والتوظيف الأيديولوجي للمشروع القومي المطرز بوشاح ديني (مذهبي)، كما فتحت الحرب "العراقية الإيرانية" وحرب الناقلات الأبواب على مصراعيها لاحتمال توسيع أرض المعركة، وهو ما عبّر عنه المرشد الحالي ورئيس الجمهورية حينها، علي خامنئي بالقول "لقد أردنا من مجلس التعاون الخليجي الضغط على العراق لإيقاف الحرب، وإذا لم يستجب لهذا الطلب، فليوقفوا دعمهم للعراق" مضيفاً "إذا ساعدوا العراق فبالطبع لن نتجاهل ذلك".
تم تلبيد الأجواء السعودية الإيرانية منذ السنوات الأولى للثورة الإيرانية، إذ تم تسيير مظاهرات للحجاج الإيرانيين (منهم أعضاء برلمان) في مدينتَيْ مكة والمدينة السعوديتين عام 1981 تهجموا خلالها على قادة الخليج العربي فيما رفعوا فيها صوراً للخميني، وفي رده على رسالة الملك خالد حول الحادثة عبّر الخميني "أن الغرض من الحج ليس العبادة وحدها، بل إن الغرض سياسي"، وهو ما أنذر بنهج تم تكريسه في السياسة الإيرانية يقوم على تغليب العامل الأيديولوجي على الأسس الدبلوماسية للعلاقات الحاكمة بين الدول، مما زاد من وتيرة الصراع بين الجارتين والذي بلغ ذروته عام 1987، إثر قيام القوات السعودية بقتل "400" حاج إيراني حاولوا السيطرة على المسجد الحرام حسب الرواية السعودية، مما أسفر عن قطع العلاقات السياسية والدبلوماسية بين البلدين خلال عامي 1988 – 1989 قابلها اعتداء الحرس الثوري على سفارة الرياض بطهران وقتل أحد دبلوماسييها، فيما لم تبلغ أزمة إسقاط الرياض لطائرة حربية إيرانية دخلت مجالها الجوي حدّة التوتر التي خلفتها أزمة الحجاج .
نظرت إيران إلى تأسيس مجلس التعاون الخليجي عام 1981 على أنه خطوة لتحقيق أهداف عسكرية وأمنية أمريكية على ضفتَي الخليج العربي/ الفارسي ، مما فتح الباب مجدداً للمطالبة الإيرانية بالبحرين وأجزاء أخرى من الخليج، مع شن حملة إعلامية على السعودية تحت مسمى (تنظيم الثورة الإسلامية في شِبه الجزيرة العربية) متهمةً إياها بتدبير انقلاب ضد حكومة طهران، وَفْق خطة لقصف مقر الخميني، حسب الرواية الإيرانية.
بعد وفاة الخميني أدرك الجانبان ضرورة التفاهم في سبيل تحقيق المصالح المشتركة وإرساء الاستقرار في المنطقة، ساهم بروز زعماء سياسيين أمثال هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي في تعزيز هذا التفاهم وتطويره إلى مستوى التعاون والشراكة خلال سعي الرئيسين الأسبقين للبناء الداخلي وتقوية دعائم الاقتصاد الوطني بدل اللهاث وراء سراب (تصدير الثورة)، زاد عليها الرئيس خاتمي مشروعه الخاص بحوار الحضارات وما يحتويه من تقريب بين المذاهب، مما عزز علاقة التعاون بين الطرفين تكللت بتوقيع اتفاقية 2001 ، والتي تضمنت في بنودها جوانب للتعاون الأمني بين البلدين، سبقها العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والعلمية والثقافية تم توقيعها في عام 1998، على إثر زيارات متبادلة قام بها كل من هاشمي رفسنجاني، رئيس مجلس تشخيص النظام الإيراني وسعود الفيصل، وزير الخارجية السعودية للبلد الآخر، فيما أعطت زيارة الرئيس الإيراني محمد خاتمي للرياض عام 1999 زخماً أكبر للعلاقات التي لم تخلُ من منغصات خلال رئاستَيْ رفسنجاني وخاتمي كالاعتداء على ميناء الخُبر السعودي عام 1996 ضمن صراع أجنحة السلطة في طهران بين إيران الدولة وإيران الثورة وهو تفسير تؤكده الاحتجاجات الطلابية على الدعوة الموجهة للملك فهد لزيارة طهران مما أحدث توتُّراً في مسائل الحج لموسم 1994.
عزّز النفط التقارب بين الجانبين إذ انعكس التوافق على تحديد سقف الإنتاج إلى رفع سعر البرميل إلى 30 دولاراً في عام 1999 بعد تدني سعره خلال عامَيْ 1997 – 1998 إلى دولارات ستة .
فتحت رئاسة محمود أحمدي نجاد عام 2005 الباب على مصراعيه لنزعة قومية طاغية لم تكتفِ بالترويج لتصدير الثورة فقط بل تعدَّاها للعمل على مشروع إيراني يمتد إلى البحر المتوسط باستخد ام التسييس الطائفي وتحزيبه مع دعم الميليشيات الطائفية كأحد أدوات تصدير الثورة وإنجاز المشروع الفارسي في المنطقة مستفيدة من التغييرات الاستراتيجية التي اجتاحت المنطقة بفعل التدخل الأمريكي وضرب العراق وأفغانستان فيما كانت إيران ثالثة الأسافي لولا المعارضة السعودية للمساعي الأمريكية الرامية لضرب طهران حسب ما ورد في مذكرات الأمير بندر بن سلطان، السفير السعودي في واشنطن حينها بحجة عجز المنطقة عن استيعاب الفوضى التي أحدثها الاجتياح الأمريكي للعراق.
غطت ابتسامة محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني السابق على المشروع الفارسي/المذهبي المتمدد في دول المنطقة، ضِمن سياسة خدمة الدبلوماسية للميدان التي فرضت على حكومة الرئيس السابق حسن روحاني والتي تم استخدامها كواجهة لهذه السياسة وحاجة للوصول لاتفاق نووي فتح أبواب المنطقة أمام التغول الإيراني في العراق واليمن وسورية ولبنان، وهو ما يعني محاصرة السعودية جنوباً وشمالاً إضافة للهجمات الصاروخية أو الطائرات المسيّرة التي نفّذ من خلالها الوكلاء الإيرانيون هجماتهم على المملكة فيما يبقى الهجوم على منشأتَيْ "بقيق" و"خريص" عام 2019 متأرجح التنفيذ بين الوكيل والأصيل.
تُوصف العلاقات السعودية الإيرانية بغير المثالية تتأرجح بين التنافس والصراع والتعاون فيما يبقى تعاوُنهما مخضباً بالحذر نتيجة للعامل الأيديولوجي الحاكم في الدولتين ومصحوباً بالدور الريادي وما يفرزه من تنافس على النفوذ في المنطقة، وفيما تتراجع أهمية العامل الأيديولوجي في محركات السياسة السعودية تتضاعف أهميته في السياسة الإيرانية بحسب مفرزات الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرتين وما تبعهما من تسمية المتشدد، محسن أجئي على رأس السلطة القضائية، مما يعني حسم الصراع بين أجنحة السلطة لصالح التيار الأكثر تطرفاً وينذر بالتالي بفشل أي جهود للتفاهُم والتعاون بين إيران ودول المنطقة عموماً والسعودية خصوصاً، وتبقى الخطوات التي يخطوها الطرفان في بغداد خطوات براغماتية مرحلية تتناغم مع الإستراتيجية الأمريكية للانسحاب من الشرق الأوسط ومآل المحادثات النووية المتعثرة في فيينا وما ستفرزه من وَقَائِعَ.