ظل سؤال الحداثة سؤالاً شاغلاً للفكر العربي منذ بداية القرن الماضي، والصدام بين العالم الإسلامي والدول الغربية الاستعمارية، وسال فيه حبر كثير، أخذت المواقف فيه طبيعة حدية بين تيار محافظ رافض للتحديث، على اعتبار أن الحداثة تحولت من حقلها الإبستيمي مع اللحظة الديكارتية في إثارته للشك المنهجي كنظرية معرفية جديدة لفهم الإنسان، والوجود، والحياة إلى مجرد أيديولوجيا استعمارية استبطنت عقد هيغل في تمايز الرجل الأوروبي الأبيض على باقي شعوب العالم، وأن رسالة هذا الرجل الأبيض هي استعمار الشعوب المتخلفة بحجة تحديثها وتحضيرها، وفق الحتمية التاريخية، والعقل الكلي المحرك للتاريخ ، معتبرةً فكرة الحداثة فكرة مادية أُحادية تنظر للإنسان والكون ببعده المادي، وتتجاوز الوحي والنص المقدس كمصدر للمعرفة الماورائية، وهي التي ولدت من رحمها تيار ما بعد الحداثة السادر في حمأة العدمية النتشية في إعلانه عن موت الإله والقيم والأخلاق وتحويل الإنسان الطبيعي إلى مجرد حيوان، وهو ما نتج تيارات الإلحاد والشذوذ.
وبين تيار الاستنساخ الذي دعا إلى اعتبار الحداثة منجزاً إنسانياً عابراً للثقافات والقوميات، وعلى المسلمين أن يعيدوا قراءة تاريخهم وتراثهم ونصوصهم المقدسة، وَفْق منظور الحداثة الغربية ويعلنوا القطيعة التامة بينهم وبين تراثهم ودينهم، لأن النص الديني والحداثة ضدان لا يجتمعان، كالخطين المتوازيين كما في رؤية محمد أركون وأدونيس في احتقارهم للذات الإسلامية العربية.
لكن بين تيار الرفض المطلق، والاستنساخ ظهرت في الفضاء الثقافي العربي كتابات مميزة، ومعالجات عميقة لقضية الحداثة، منها من حاول أن يحيي العقلانية الرشدية في التراث الإسلامي ليبني منها حداثةً إسلامية متولدة من الذات كالمرحوم محمد عابد الجابري في كتابه بنية العقل العربي. وبين من أخذ بأسلوب التشريح والتفكيك مع الحذر من التعامل معها ككتلةٍ مصمتة ودراستها ضمن ظروف التحقيب، التي مرت بها فكرة الحداثة كما فعل المرحوم عبد الوهاب المسيري في كتابه الحداثة، عندما وقف على الأفكار المؤسسة للحداثة ومر على حقبها التاريخية، ووضعنا أمام النتائج الحتمية العدمية التي أوصلت الحداثة إليها الإنسان الغربي التائه اليوم.
لكن يبقى كتاب "طه عبد الرحمن" روح الحداثة من أعمق الأطروحات الفلسفية في معالجة فكرة الحداثة، وإخراج الإنسان المسلم من المأزق الفكري العالق بين الرفض والاستنساخ. لقد كشف طه عبد الرحمن عن حقيقة المخادعة التي يقوم بها بعض الرواة العرب عن الحداثة الغربية عندما يخلطون بين روح الحداثة وبين شبح الحداثة ومنتجاتها فيعرضون منتج الحداثة الغربية على أنه هو جوهر الحداثة.
لقد استطاع عبد الرحمن أن يخرج بفكرة الحداثة من حيزها الجغرافي المرتبط بالغرب، ومن حيزها الزمني المرتبط بتاريخ الحداثة في الغرب إلى الفكرة المجردة العامة، وفرق عبد الرحمن بين جانبين مهمين في الحداثة (روح الحداثة) وهنا يقصد جوهرها العام، و(واقع الحداثة) الذي سميته في عنوان المقال شبح الحداثة وهو تجلياتها الخاصة.
وهذه التفرقة حتى يدرك العقل العربي المجرد مدى خلطه للمفاهيم والمصطلحات التي نقلها عن الغرب كما هي، دون نقد أو تمحيص. واعتبر عبد الرحمن أن روح الحداثة هي: "جملة القيم والمبادئ والأفكار القادرة على النهوض بالوجود الحضاري للإنسان في أي زمان وأي مكان مخصوص".
وواقع الحداثة أو شبحها الحائل هو: “تطبيقات الحداثة حيث تحقق هذه القيم والمبادئ والأفكار الحضارية في زمان مخصوص ومكان مخصوص، فلا يمكن تعميمها على كل زمان ومكان".
إذ إن الحداثة ليست تطبيقاً واحداً، بل تطبيقات متعددة باعتبارها روحاً لا تتجلى في مظهر واحد، فهذه الروح عبارة عن جملة من المبادئ ومعلوم أن المبدأ لا يستنفذه أبداً تطبيق واحد، إذ هو بمنزلة القاعدة العامة التي تجري على حالات مختلفة. وأيضاً التفاوت بين واقع الحداثة وروحها، فهذا الواقع الذي يجسده التطبيق الغربي للحداثة ما هو إلا وجه من وجوه التطبيقات الممكنة لهذه الروح، وبالتالي فإن الواقع الحداثي غير الروح الحداثية تبعاً لخصوصية المجتمع الذي يطبقها، والثقافة الغالبة على المجتمع والبيئة النفسية والسياقات التاريخية التي تمر بها الأمم كل ذلك يفرض شكلاً مخصوصاً لتجلي روح الحداثة في الفعل الإنساني.
يقوم مشروع طه عبد الرحمن على عدد من المقدمات والمسلمات:
أولًا: بسبب الافتقار إلى منهجية مناسبة وبنية فكرية مستقلة، فشل الفكر الإسلامي المعاصر في التعامل مع التراث الإسلامي، والاستقاء منه لمواجهة تحديات العصر.
ثانياً: إن مرد هذا الفشل عائد إلى اعتماد المسلمين المطلق وقبولهم غير المُسائِل والناقد للتطبيق الغربي الخاطئ لروح الحداثة.
ثالثاً: إن روح الحداثة التي يتحدث عنها عبد الرحمن تعني ثلاثة مبادئ أساسية هي:
1- بلوغ الرشد أي الاستقلال النفسي والمعرفي والأخلاقي عن أن يكون تابعاً لثقافة الغير.
2- اتخاذ سبيل النقد للذات والآخر لأنه لا سبيل للإبداع بدون نقد، والنقد هو جوهر الاستقلال الفكري.
3 – الشمول الزماني والمكاني والإنساني والتجدد المستمر في المتغيرات.
رابعاً: إن روح الحداثة كما بينها عبد الرحمن في المبادئ الثلاثة لها صلاحية كونية، ومن ثمَّ فهي عابرة للتاريخ والجغرافيا، وهو ما يعني أن روح الحداثة لديها القدرة على إنتاج حداثات متعددة، والتمثل الإسلامي لها هو إحدى صيغِ تجسيد هذه الروح على الأقل، خصوصاً أن مبادئ الإسلام هي جوهر روح الحداثة.
إن عبد الرحمن وهو يحاول بناء صرح الاستقلال الحداثي للمسلمين يؤكد على الجوهر المفارق للحداثة الغربية -وعلى وجه التحديد- الفارق الأخلاقي بين الحداثتين، بحكم أن الصيغة الإسلامية للحداثة ترى أن الأخلاق قيمة مركزية وضرورية لأية حضارة لكي لا تقع، وتنقلب عن مقاصد الفعل الحضاري في نفع الإنسان الدنيوي والأخروي، إلى سحق الإنسان كما حصل الانقلاب في الحداثة والانحدار في أتون ما بعد الحداثة حيث انهيار النظم الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والتنكر للعقل الرشيد وإعلان التبعية المطلقة للإحساس الشهواني والاستجابة لنداء الغريزة الحيوانية الرابضة في وحشية الإنساني البهيمي، كما يؤكد عبد الرحمن على البُعد الأخلاقي للحداثة كقيمة لا يمكن فصلها عن الدين، والسياسة، والفن، والقانون، والاجتماع، ولا يمكن تأسيسها على جوهر غير ديني كما في الأخلاق الطبيعية عند الغرب.
لقد أبدع عبد الرحمن حين أسس روح الحداثة على مبدأ الرشد العاصم للهوية من الذوبان في الذوات الأخرى، وعلى مبدأ النقد للذات لعصمة الحضارة من التعصب الأعمى للذات/ ونقد الآخر لعصمة الروح المنهزمة من التقليد والتبعية لمظاهر الحداثة الواحدة، وعلى مبدأ الشمول والتعميم لينطلق من قاعدة تجاوز الزمان والمكان وأحادية الإنسان المادي كما في الرؤية الغربية للإنسان الطبيعي.