إن ميزة الفلاسفة الذين يفتتحون العصور المعرفية الجديدة ويُشكِّلون نقطة تحوُّل في التاريخ المعرفي ليس بكمية الإنتاج المعرفي ولا باجترار منتج الفلاسفة والمفكرين السابقين مع وضع بعض الزَّرْكَشات اللفظيَّة عليها لتظهر وكأنها أفكار جديدة.
إن الميزة الحقيقية لهؤلاء أنهم يجتهدون في المنهج والمنتج على حد سواء ولا يقبلون الاستعارة من عقول الآخرين، إن الاختلاف الحقيقي بين الفلاسفة المجتهدين والمقلِّدين لا يختلف عن مفهوم الاجتهاد في الفقه الإسلامي والتفريق بين المجتهد الذي يستقل بأصوله المنهجية ويجتهد في ترتيب مصادره المعرفية وبين المُقلِّد الذي يتبع المجتهدَ في فروعه والقياس والاستنباط من أصوله.
كذلك في عالم الفلسفة الرحيب يكمن الفرق بين الفيلسوف المجترّ والفيلسوف المبدع في الاستقلال بالبرادايم أو نظام التفكير أو منهج التفكير؛ لأن هذا النظام هو بمثابة الماكينة المعرفية التي منها تخرج كل الأفكار والتصوُّرات والنظريات لذلك يقف مَن يؤرخون للفلسفة طويلاً عند ديكارت الذي كتب كتابه المختصر جِدّاً مقالات في المَنْهَج الذي شكَّل كما يقال نقطة تحوُّل معرفي " Bardem transformation”.
فشكَّل ديكارت نقطة تحوُّل معرفي مهمّ جِداً في تاريخ الفكر الغربي والإنساني، وكذلك عند فرانسيس بيكون في كتاب الأوركانون الجديد وكتاب جون لوك مقال بخصوص الفهم الإنساني.
ولعل هذا ما يميز الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن عن غيره من بعض المفكرين فهو يحاول أن يصنع طريقه بنفسه ليصل به نحو غايته ويبدع فلسفة جديدة بدون أن يمد يده ليحتال مستعيراً للمناهج البحثية الغربية كما فعلب محمد أركون وأدونيس وشحرور في الاستعانة بالمناهج التاريخانية الغربية والأنثربولوجية والمناهج التفكيكية اللغوية ليتذرعوا بها نحو علمنة الإسلام أو الخروج بنسخة غربية تماماً لقراءة الإسلام تُحوِّله إلى مجرد كنيسةٍ أو منتجٍ بشريٍّ فرضته السياقات التاريخية وتنزع عنه القداسة والعلوية.
لقد كان عزف طه عبد الرحمن منفرداً عندما رفض مفهوم العقل كما هو في الفكر الغربي والأرسطي ورفض الفلسفة الوضعية والبراغماتية السائدة في الغرب، وراح ينحت مفهومه الخاص للعقل والفلسفة ليُشكِّل لنفسه نظاماً معرفياً جديداً لا يجعل منه مأسوراً للنظم المعرفية القديمة أو الغربية المُستورَدة.
لقد بدأ طه عبد الرحمن بالعقل ورفض أن يكون العقل ذاتاً مُدرِكةً كما هو الحال عند أرسطو أو مجرد غريزة فطرية وإنما هو فعل إدراكي يصدر عن القلب.
وطالما أنه فعل إدراكي وليس ذاتاً فيلزم لكل فعل قصد هو غاية هذا الفعل واتجاه أي طريق ووسيلة تُفضي إلى هذه الغاية والقصد، وهذا ما ترتبك فيه الفلسفة الوضعية التائهة في غاياتها فليس هناك غاية واضحة وثابتة لفعل التفلسف، وهو ما يعرضها للانقلاب المستمر على الغاية إلى غاية جديدة والانقلاب على الوسيلة، كما انقلبت فلسفة ما بعد الحداثة على العقل الذي طالما شكَّل الإطار المرجعي لفلسفة الحداثة.
وهنا ينحت طه عبد الرحمن مفهوماً جديداً للعقل يتجاوز فيه العقل المجرد وسيلة الفلسفة المجردة في التفلسف والتفكير معتبِراً هذا العقل فعلاً إدراكياً قاصراً لأنه يطلب النظر بوسائل مادية محضة وهو مجرد عن العمل والممارسة الأخلاقية؛ لأنه منفصل ومجرد عن الوحي كمصدر من مصادر المعرفة ليستعيض عن هذا العقل بالعقل المسدد… المسدد بالوحي لكن هذا العقل من وجهة نظر طه عبد الرحمن قد يتعثر في اجتهاده فيضل الحقيقة، وهناك لا بد أن يعضد بالعقل المؤيد ومن اجتماع العقل المسدد بالوحي والعقل المؤيد بالعمل الصالح يتكون العقل المكوثر وهو في تعريف طه عبد الرحمن يتصف بثلاث خصائص عقل من فعل التعقل وقاصد من وضوح الغاية والمقصد ونافع بمعنى النفع المادي والمعنوي والدنيوي والأخروي.
لماذا يصر طه عبد الرحمن على إعادة إنتاج عقل جديد في نظام تفكيره قبل أن ينحو باتجاه التفلسف؟
يبرر عبد الرحمن ذلك بأن للعقل اتجاهين الأول اتجاه أفقي يتعلق باتصال الأشياء بعضها ببعض والثاني اتجاه عمودي يجعل العقل يطلب خَفِيَّ دلالات الأشياء وعلاقاتها بالنسبة لوجوده.
ولحفظ اتجاه العقل الأفقي من أن ينحدر نحو الانقلاب لا بد له من مقصد ولحفظ اتجاهه العمودي لا بد له من وسيلة حتى لا ينتكس.
ولا سبيل إلى التيقن من هذا التسديد إلى المقصد والتيقن من الوسيلة إلا بالفعل الديني والعمل الصالح.
ولما كان العقل المجرد لا يؤمن بالعمل الديني فلا يُؤمَن عليه شُبهات الانقلاب في مقاصده أو شُبهات الانتكاس في وسائله، وهذا ما وقع في فلسفة الحداثة عندما تحولت من فكرة وفلسفة تَعِد الإنسانَ بإنهاء الفقر والجهل والمرض وبسيطرة الإنسان على الطبيعة وتحرير الإنسان وإنهاء الحروب انقلبت على هذه المقاصد وتحولت إلى أيديولوجية تخدم فكرة الاستعمار وتغذي الحروب بين البشر كما كان في الحرب العالمية الأولى والثانية التي قامت على مبررات وأدوات هي مِن منتجات الفلسفة الوضعية الحديثة.
لقد شعر طه عبد الرحمن بهذه الشقوق الأخلاقية والثقوب المعرفية في بِنْيَة العقل الفلسفي الوضعي التي انقلبت بالنهاية إلى فلسفة مادية بوسائلها عدمية في غايتها كما توصل نيتشه وغيره من فلاسفة ما بعد الحداثة التي ولدت من رحم الحداثة نفسها ولم يغترّ بنتائج نهضتها المادية أمام حالة التخلف المعنوي والحضاري في شِقّها الأخلاقي والإنساني ورأى ضرورة التفكير بلحظة إبداع منهج جديد.
لقد كان مشروع طه عبد الرحمن الفكري هو الانتقالَ من الفلسفة العقلية المجردة التي تُفضي إلى العدمية والعبثية وترمي بصاحبها في عَرَاء اللَّايَقِين واللَّامَعْنى واللاأمان بسبب تجريدها عن كينونة الإنسان الأخلاقية المُتجاوِزة لعالم المادة إلى بناء الفلسفة وعقلانية جديدة هي الفلسفة العقلية المؤيَّدة بالفعل الأخلاقي والمسدَّدة بالمعرفة المتجاوِزة للمادة خصوصاً في جواب الأسئلة الوجودية (مِن أين جئت؟ ولماذا أتيت؟ وإلى أين المنتهى؟) واختار أن يسميها الفلسفةَ الِائْتِمَانِيَّةَ؛ لأن الإنسان معها يأمن على ثبات الغاية ويأمن من نجوع الوسيلة ولا يتعرض معها للخوف والقلق الدائم من الشك بعبثية الغاية والمقصد أو عدم نجوع الوسيلة.
يُتبع…… في المقال القادم