ما أن تواردت الأخبار القادمة من أفغانستان حول انسحاب الولايات المتحدة غير المفاجئ والانهيار الدراماتيكي للحكومة الأفغانية وهروب الرئيس أشرف غني وسيطرة طالبان بطريقة سلسة على معظم الأرض الأفغانية، بدأت حالة من الانتعاش المعنوي تدبّ في عروق الجماعات الجهادية وحالة من سريان الحياة تتسلّل إلى ذلك الجسد المنهار بفعل الصدمات والرفض الذي تعانيه تلك الجماعات، في صورة تشي بإعادة إثبات الذات على ساحة الصراعات الدولية لجماعات أوشكت شمسها على الغياب لكنها تحاول أن تعيد فجرها من جديد بناء على فشل تجارب الإسلام السياسي في ميادين الانتخابات والديمقراطية.
لقد كان لسقوط كابول في يد قوات "طالبان" بوقعه الشديد وبرمزيته التي تدل على انبعاث خيارات إسلامية غير سياسية والذي جاء بعد شهر واحد من انقلاب تونس الذي قاده الرئيس قيس سعيّد على البرلمان التونسي الذي ترأسه حركة النهضة التونسية التي تشكل امتداداً للإسلام السياسي في المنطقة العربية، وهو ما يعطي إشارة إلى أن هناك حالة من عودة الحركات الإسلامية المسلحة في المنطقة وخفوت للإسلام السياسي الذي أثبت عدم نجاحه في مقارعة الدول العميقة.
وهذا ما يفسر توارد بيانات التهنئة والتبريكات التي زفّتها الجماعات الجهادية في بمناسبة انتصار طالبان في رسالة تبدو أنها محاولة لتقمص الدور، وقطف ثمار الانتصار واستنساخ التجربة والتعويض النفسي عن حالة التلاشي التي تعانيها هذه الجماعات أكثر منه مجرد تعاطف وابتهاج لهذا الحدث الذي بدا وكأنه يرتدي ثوب الأسطورة.
وكانت هيئة "تحرير الشام" التي بادرت للمباركة والابتهاج من الجماعات التي حاولت أن تثير في نفوس المراقبين والجمهور شعوراً بالمقارنة النفسية بين طالبان أفغانستان وطالبان سوريّة "تحرير الشام" لكن السؤال هل تصحّ المقارنة فعلاً بين النموذجين من حيث الانبثاق والبنية والدور.
إن عمق التحليل والتشريح يقتضي منا الوقوف على الفروق المتغايرة بين هاتين الحالتين وألا نقع في شباك التشابيه السطحية التي تختزل الصورة وتضلل الجمهور وهذا ما سنفعله بالوقوف على ثلاث فوارق أساسية بين طالبان وتحرير الشام.
فلو تناولنا المقارنة من حيث الانبثاق والتشكل وبعيداً عن تقيمنا لكل من التجربتين فإننا نلحظ البون الشاسع بينهما فحركة طالبان هي حالة مشابهة لثورات المقاومة الشعبية وشعوبها لحماية وجودها السياسي والثقافي من المحتل الأجنبي كثورة الشهيد عرفان في الهند وشامل في القوقاز وعبد القادر الجزائري في الجزائر والحركة السنوسية وعمر المختار في ليبيا والمهدي بن بركة في السودان وحركة محمد الأشمر في سورية وإن كان ثمة صوراً من العنف والتشدد في سلوك طالبان فإن مردّ ذلك إلى العرف والعادات والتقاليد الأفغانية وليس إلى الحمولة الإيديولوجية أو الفكرية التي تنتمي لها طالبان، وهنا مكمن جوهر الاختلاف بين الحركات الشعبية ذات الانبثاق المحلي الطبيعي وبين جماعة مثل تحرير الشام خضعت لعمليات تهجين وتدجين قسرية حتى وصلت إلى حالة اللا هوية فتحرير الشام اليوم ليست حركة جهادية سلفية بالمعنى المتخيل والمقاس على تنظيمي القاعدة وتنظيم داعش بعد سلسلة التحولات التي قامت بها وليست حركة إسلام سياسي كحالة الأخوان المسلمين تتبنى الخيار الديمقراطي والمشاركة السياسية وليست حالة إسلام شعبي محلي تحولت إلى حركة مقاومة وعلى هذا الأساس يستحيل التشبيه من حيث الجذور وظروف النشأة المختلفة تماماً عن طالبان ذات التوجه الديني المحلي القائم على ثلاثية (المذهب الحنفي، والاتجاه الصوفي والعقيدة الماتوردية) والممتدة إلى مشايخ الديوبندية في شبه القارة الهندية.
وعلى صعيد البنية فإن بنية حركة طالبان هي بنية عشائرية أقومية في جوهرها وحاملها العصبوي فهي تنتمي إلى الأكثرية البشتونية التي تشكل 45% من نسبة سكان أفغانستان، وهو ما تفقده تحرير الشام تماماً رغم محاولتها الالتصاق بالمكونات العشائرية والاجتماعية، وقد تحولت الرابطة التي تربط بين جنودها من رابطة الأيدلوجيا إلى رابطة برغماتية مصلحية يشكل العامل الاقتصادي جوهره وربما يعود ذلك إلى اختلاف في بنية المجتمع السوري المدنية عن بنية المجتمع الأفغاني البدوية القبلية.
أما بالنسبة للدور فشتان بين دور طالبان خلال فترة الاحتلال الأمريكي لأفغانستان القائم على الإنهاك والإزعاج المستمر للحكومة الأفغانية والمحتل الأمريكي وبين دور تحرير الشام في الثورة السورية الذي بات يشبه دور ضابط الأمن، فرغم أن طالبان ولدت كتنظيم بعد الاندحار السوفيتي عن أفغانستان وجاءت في ظل فشل الفصائل الأفغانية في إدارة الحكم، كانت تحرير الشام تمارس عملية بناء الإمارة قبل تحرير سورية من الاحتلال وسعت إلى تفكيك كل فصائل الثورة السورية التي تشعر بها أنها منافسة لمشروعها، وتحول دورها من المقاومة وقتال النظام إلى دور المدير الاقتصادي والأمني للمنطقة التي تسيطر عليها وحفظ الاتفاقات الدولية والتفاهمات الإقليمية والسعي لرفع تصنيفها عن قوائم الإرهاب والاعتراف الدولي بها كجزء من المعادلة والحل السياسي وكقوة ضبط محلية قادرة على احتواء الجماعات الجهادية المتشددة إلى درجة تحولت فيه تحرير الشام إلى جزء وركن أساسي من معادلة الاستقرار، بينما كانت طالبان تعمل زعزعة الاستقرار والاتجاه بإستراتيجية ضرب كل المصالح الدولية والإقليمية في أفغانستان التي لا تمر عبرها وكانت الإستراتيجية الطالبانية واضحة في السعي لطرد المحتل وحكم أفغانستان كلها بمشاركة مع بقية الأطراف تكون هي من يحدد حجم ودور الآخرين فيها.
وعلى ذلك يغدو التشابه بين الحالتين ضرب من المستحيل السياسي والاجتماعي وغير المفيد حتى في التقييم والحكم على التجارب مختلفة في سياقها وظروفها وبنيتها ودورها وعليه فإنه يستحيل استنساخها وتكررها كما يحلم بعض الذي يحاولون ممارسة دور التقمص.