المصدر: مؤسسة هوفر
ترجمة: عبدالحميد فحّام
بقلم: جويل دي رايبورن (دبلوماسي سابق وباحث)
سورية كخطر مستمرّ.. نحن نتجاهل سورية على حساب تعريض أنفسنا للخطر فبعد ما يقرب من أحد عشر عاماً، أصبح الصراع السوري مشكلة أمنية دولية على نفس القدر من الخطورة.
وما قد بدأ في عام 2011 كثورة شعبية ضد حكم بشار الأسد سُرْعان ما توسّع إلى صراع إقليمي ليس له نهاية تلوح في الأفق. ومع وجود خمس قوى عسكرية خارجية تتصارع مع بعضها بعضاً في سورية أو من أجلها (روسيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة وإسرائيل)، فإن احتمال نشوب صراع داخل الدول في أي وقت قريب هو احتمال وارد بشدة. فسورية هي مصدر أكبر أزمة لاجئين في العالم، حيث يوجد حوالَيْ اثنَيْ عشر مليون سوري -نصف سكان البلاد قبل الحرب- إما مسجلين كلاجئين أو نازحين داخلياً. وتوجد مجموعات أخرى من هذا القَبيل بأعداد كبيرة. إن تصميم بشار الأسد على الاحتفاظ بأسلحة كيماوية ضخمة يجعل من سورية المشكلة الأكثر وضوحاً لأسلحة الدمار الشامل في العالم أيضاً. إن القتل الجماعي لنظام الأسد وسَجْنه لمئات الآلاف من السوريين يجعله أسوأ من يتعدّى على حقوق الإنسان في القرن الحادي والعشرين. أضف إلى هذه الأهوال التطور الأخير المتمثل في أن نظام الأسد أصبح دولة مخدرات رئيسية.
لا تُظهر الحرب الداخلية بين الفصائل السياسية السورية أي مؤشر لوجود أي حل داخلي. وبعد عقد من الحرب، تم تقسيم البلاد بحكم الأمر الواقع إلى ثلاث مناطق: الدولة الفاشلة التي يحكمها الأسد، والتي تضم ربما 10 ملايين سوري، ومنطقة تديرها فصائل مدعومة من تركيا بحكم الأمر الواقع للأراضي التي تسيطر عليها المعارضة في الشمال الغربي مع حوالَيْ خمسة ملايين سوري؛ ومحمية أمريكية بحكم الأمر الواقع في الشمال الشرقي مع حوالَيْ أربعة ملايين سوري تحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية التي يقودها الأكراد. ويجد الأسد نفسه بدون الوسائل العسكرية أو المالية لإعادة احتلال المنطقتين الأخريين، ويجد العالم الأسد دون أي ميل للتوصل إلى سلام معهما أيضاً. باختصار، لا تزال سورية ساحة معركة متوترة بها جميع المكونات اللازمة للانخراط في حرب أوسع في أي وقت.
غموض يكتنف الشأن السوري في سياسة إدارة بايدن
في ظل هذه الخلفية المُعقَّدة، أمضت إدارة بايدن الأشهر العشرة الماضية ربما تسعى بشكل يمكن تفهُّمه لإعادة توجيه اهتمام الولايات المتحدة وطاقتها نحو أزمات أخرى فمنذ مرحلة مبكرة أشار فريق بايدن إلى أن سورية ستكون ذات أولوية أقلّ بكثير للإدارة الجديدة بالمقارنة مع الإدارة السابقة. وعندما تم سؤال فريق بايدن عن نواياهم، قالوا إنهم سيستغرقون عدة أشهر لتحديد الاتجاه الواضح ويجب الانتظار حتى الانتهاء من مراجعة مطولة للسياسة، على الرغم من أن وقفهم الغامض للضغط على نظام الأسد خلق تكهنات بأن بايدن قد يفكر في إعادة العلاقات مع دمشق.
وقد دعم كبار المسؤولين الأمريكيين هذا الرأي عندما حثّوا دول المنطقة على المشاركة في صفقة من شأنها أن ترسل الغاز والكهرباء إلى لبنان المتعثر عَبْر نظام الأسد، وعندما أعاد القادة الإماراتيون العلاقات الدبلوماسية مع الأسد في وقت سابق من هذا الشهر، افترض الكثير في المنطقة أنهم كانوا يقومون بذلك بمباركة واشنطن. وفي غضون ذلك أثار انسحاب بايدن المتسرع من أفغانستان شكوكاً في أنه قد يسحب القوات الأمريكية من سورية أيضاً.
وقد أوضحت إدارة بايدن في الأيام الأخيرة بعضَ -وليس كلَّ- هذا الغموضِ حين قال منسق بايدن في مجلس الأمن القومي للشرق الأوسط، بريت ماكغورك، أمام جمهور في مؤتمر في البحرين في 21 تشرين الثاني (نوفمبر): إن مراجعة السياسة التي طال انتظارها حددت أربع أولويات للولايات المتحدة في سورية: الحد من العنف، مواصلة الضغط على "داعش" عَبْر التحالف العسكري بقيادة الولايات المتحدة في شرق سورية، معالجة الأزمة الإنسانية في سورية ودعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها من التهديدات القادمة من سورية (تعبير ملطف لدعم الضربات الجوية الإسرائيلية ضد الوجود العسكري الإيراني في سورية). كما أوضح ماكغورك أن بايدن ليس لديه نية لسحب القوات الأمريكية من سورية أو أي مكان آخر في المنطقة، وقد خفف من التوجس الحاصل من فكرة التطبيع مع الأسد.
وعلى الرغم من أن ماكغورك وصف هدف الإدارة السابقة المتمثل في طرد الجيش الإيراني من سورية بأنه "متطرف" وغير واقعي، فقد حذر كل من ماكغورك ووزير الدفاع لويد أوستن في المنامة من أن الإدارة لن تتسامح مع أي عدوان إيراني ضد المصالح الأمريكية في أي مكان في المنطقة.
إن هذه التوضيحات المتأخرة مُرحَّب بها، ولكن قد يكون تأثيرها خافتاً إلى حد ما من خلال الإشارات المختلطة. ولا شك أن المعارضة السورية واللاعبين الدوليين سيلاحظون أن العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة في جنيف وقانون "قيصر" وعقوباته التي تضغط على الأسد والجهود الدبلوماسية الأمريكية لحل أو التخفيف بشكل كبير من الصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني عَبْر شمال سورية والعراق وهي ثلاث نقاط كانت تشكل جزءاً من أولويات الإدارة السابقة تغيب عن أولويات ماكغورك الأربع حالياً.
إن تصريحات ماكغورك وأوستن في المنامة بأن إدارة بايدن تعتزم صدّ العدوان الإيراني في الشرق الأوسط قد تم تقويضها بشكل مثير للفضول في نفس المنتدى من قِبل المبعوث الأمريكي لإيران روبرت مالي، الذي أعلن أن الخلل في الشرق الأوسط يرجع إلى حد كبير إلى "استبعاد" إيران من قِبل بقية دول المنطقة.
كما كرر "مالي" تقييمه المتكرر بأن "حملة الضغط الأقصى" التي شنتها الإدارة السابقة ضد طهران قد جعلت المشكلة الإيرانية أسوأ.
عدم الرضا الإقليمي والدولي عن نهج بايدن
إن سياسة فريق بايدن التي صاغها حديثاً بشأن سورية هي تغيير مرحَّب به بعد عشرة أشهر من صمته والقلق الإقليمي الذي صاحبه.
لكن من المحتمل أن قائمة أولويات الإدارة السورية المنزوعة من القائمة ستجعل الكثير من دول المنطقة المحيطة يحكمون بأن الولايات المتحدة، في الوقت الحالي، ليست مهتمة بنهج أكثر شمولاً يراعي أولويات جيران سورية.
ولا يتفق الإسرائيليون بالدرجة الأولى، مع نهج فريق بايدن تجاه مشكلة إيران، سواء في الإطار العامّ أو في سورية على وجه الخصوص، حيث سعى الإسرائيليون لعدة سنوات إلى ما يسمونه "إبعاداً تامّاً" للأسلحة الإستراتيجية الإيرانية والوجود العسكري.
وفي نفس المرحلة مع ماكغورك في المنامة، اعترض مستشار الأمن القومي الإسرائيلي، إيال هولاتا، على قرار إدارة بايدن بتخفيف الضغط الذي فرضته الإدارة السابقة على طهران، حيث وصف إيران ووكلاءها بـ "القوة الأكثر زعزعة للاستقرار في المنطقة".
وقال: إن "إيران لن تقدم تنازلات فقط لأننا نطلبها بلطف"، وأضاف: "إنهم لا يستجيبون بهذه الطريقة. ولكن كل مَن يقول إن الضغط لا يجدي نفعاً فعليه أن يرى أثر الضغط من قِبل كل من الإدارات الجمهورية والديمقراطية الذي جعل إيران تغير سياستها ".
وفي الوقت ذاته فإن تركيا تجد نفسها في نفس الوضع الذي عانت منه خلال الإدارة السابقة. ففي لقاء مع الرئيس أردوغان في أوائل شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، ورد أن بايدن حذّر الزعيم التركي من أن الولايات المتحدة لن تسمح لتركيا بمهاجمة قوات سورية الديمقراطية (SDF)، وهي قوة تعتبرها أنقرة تحت سيطرة حزب العمال الكردستاني وتتهمها مراراً وتكراراً بتسهيل الهجمات الإرهابية داخل تركيا.
وبعد أيام فقط كشف زعيم قوات سورية الديمقراطية مظلوم عبدي علناً أن المسؤولين الأمريكيين أكّدوا له أن واشنطن لن تسمح لتركيا بمهاجمة قوات سورية الديمقراطية مرة أخرى كما فعلت في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2019.
لكن ما إذا كانت إدارة بايدن تعتزم معالجة مجموعة التوترات بين تركيا وحزب العمال الكردستاني في جميع أنحاء شمال سورية والعراق، أو كيف ستنوي ذلك، لم يتضح بعد. على الرغم من أن الإدارة السابقة حاولت تخفيف التوترات في هذه المنطقة من خلال التوسط في المحادثات بين قوات سورية الديمقراطية والأحزاب الكردية التي ترعاها تركيا، إلا أن تلك المحادثات انهارت مع اندلاع العنف بين حزب العمال الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، ولا يبدو أن استئنافها وشيك.
من جانبها، تجد الدول العربية نفسها مع العديد من التهديدات الوجودية المحتملة ولا توجد إستراتيجية تقودها الولايات المتحدة لحلها: كمشكلة ملايين اللاجئين السوريين الذين ليس لديهم أمل في العودة إلى ديارهم؛ الجماعات المسلحة التي تهدف إلى استخدام سورية كقاعدة ضد المنطقة بأسرها.
والخطر من أن سورية يمكن أن تتحول إلى موقع عسكري إيراني واسع النطاق. فالقلق من هذه المخاطر -والخوف، خاصة بين دول الخليج، من أن يصبح لاعبون آخرون في المنطقة أيضاً تهديداً كبيراً- كل ذلك خلق انقساماً بين الدول العربية التي تريد استمرار عزلة الأسد ودول مثل الإمارات العربية المتحدة التي تريد اختبار ما إذا كان يمكن حل هذه المشاكل من خلال إعادة التحالف مع نظام الأسد ولكن "التطبيع" مع الأسد هو نهج حاولت الدول العربية تجربته دون جدوى من قبل، وحتى الآن لا يوجد ما يشير إلى أن الأسد سيكون على استعداد للقيام بالحد الأدنى المطلوب لتأمين المصالح الخليجية في بلاده. هذه حقيقة يبدو أن المملكة العربية السعودية ومصر وقطر تعترف بها.
ومما لا شك فيه أن تقييمهم الواضح تعززه حقيقة أن نظام الأسد، بالتعاون مع "حزب الله" اللبناني، يواصل تصدير مليارات الدولارات من عقار الكبتاغون غير القانوني إلى الخليج، مما يجعل الحكومة السورية واحدة من أبرز المجموعات التي تتاجر بالمخدرات في العالم.
كذلك فإن الإمارات العربية المتحدة والدول العربية الأخرى لم تتمكن من شرح كيف يمكن لسياستها المفضلة لتطبيع العلاقات مع الأسد ونظامه أن تؤدي إلى نتيجة مستقرة في سورية، وهو أمر سيتعين عليهم فعله إذا أرادوا إقناع الدول العربية الكبرى الأخرى واللاعبين الدوليين بالانضمام إليهم في هذا النهج.
مثلما تتجاهل أولويات فريق بايدن المصالح الأكثر إلحاحاً لجيران سورية، فإنها لا تقدم أي تشجيع لمحادثات السلام التي تقودها الأمم المتحدة بين النظام السوري والمعارضة في جنيف. فلم يقم ماكغورك ولا غيره من كبار المسؤولين الأمريكيين بإدراج عملية جنيف السياسية أو قرار مجلس الأمن رقم 2254، القرار الذي تستند إليه محادثات جنيف، في وصفهم لإستراتيجية إدارة بايدن. وفي غياب الضغط القوي الذي تقوده الولايات المتحدة على نظام الأسد وحلفائه، يمكن للنظام ببساطة أن يحبط العملية في جنيف بمسرحيات فارغة، كما فعل في جولة فاشلة من المحادثات في تشرين الأول (أكتوبر) والتي أجبرت مبعوث الأمم المتحدة الخاص غير بيدرسن على إعلان "خيبة أمل كبيرة". وقد أدى فشل محادثات تشرين الأول (أكتوبر) إلى عدم وجود مَسار واضح للعملية التي تقودها الأمم المتحدة لأول مرة منذ عام 2017.
الخُلاصة: إلى أين تقود سياسة بايدن تجاه سورية؟
يميل فريق بايدن إلى وصف سياستهم تجاه سورية فيما يتعلق بسياسة الإدارة السابقة. فهم يصفون نهج فريق ترامب بأنه كان متطرفاً، فيما يقولون بأن نهجهم محدّد وواقعي. ويعتقد كبار المسؤولين في إدارة بايدن أن إدارة ترامب بالغت من خلال التركيز ليس فقط على مكافحة الإرهاب في ما يخص السياسة السورية، ولكن أيضاً على مشكلة إيران والسعي للتوصل إلى تسوية سياسية بقيادة الأمم المتحدة.
وحيث من المفترض أن إدارة ترامب بالغت في التأكيد على سورية على حساب المشاكل الأكثر إلحاحاً، يؤكد فريق بايدن أنها ستتجنب تكاليف الفرصة البديلة عن طريق خفض تصنيف سورية كمحفظة سياسات، بما في ذلك الامتناع عن تعيين مبعوث كبير لشغل المنصب الذي كان يشغله السفير جيم جيفري حتى أواخر عام 2020.
وفي حين أنه من الصحيح أن سياسة إدارة ترامب تجاه سورية لم تكن مثالية، وعلى الأخص في تعامُلها المتكرر مع الوجود العسكري الأمريكي في شرق سورية، إلا أن الاختلاف الحقيقي بين نهجي ترامب وبايدن هو أن الأخير اختار التركيز على أربعة أعراض للصراع السوري، بدلاً من معالجة أسبابه الأساسية -طبيعة نظام الأسد والتوسع الإقليمي للنظام الإيراني- كما حاول النظام السابق. ويقترح فريق بايدن التركيز على الإرهاب والأزمة الإنسانية القادمة من سورية دون البحث عن حل للصراع العامّ الذي تنبثق عنه تلك المشاكل. إنهم يعتزمون الحد من العنف في سورية من خلال وقف إطلاق النار الذي لن يرتبط بعملية أوسع لحل الصراع السياسي الذي يخلق العنف في المقام الأول.
إنهم يشيرون إلى الضوء الأخضر لإسرائيل لـ "عمل ما يلزم" من خلال مهاجمة القواعد والأسلحة الإيرانية في سورية دون معالجة التوسع العسكري الإيراني غير المسبوق (على الأقل في العصر الحديث) في بلاد الشام على نطاق أوسع. كما أغفلوا ذكر أسلحة الدمار الشامل للنظام السوري التي كادت أن تقود الولايات المتحدة إلى الحرب مع دمشق أعوام 2013 و2017 و2018.
وباختصار فإن إدارة بايدن تطمح إلى إدارة الصراع السوري بدلاً من إنهائه، مع استبعاد الدعوات إلى حلول أكثر شمولاً باعتبارها متطرفة وغير واقعية. ومن خلال تجاهُل الأسباب والتركيز على الأعراض، فإن نهج بايدن سيضمن أن الصراع لن ينتهي في أي وقت قريب وأن احتمالية حدوث تصعيد متفجر ستظل قائمة في جميع الأوقات.
ومن خلال عدم صياغة حالة نهائية للصراع تراعي احتياجات الحلفاء الإقليميين للولايات المتحدة، فإن إدارة بايدن ستترك فراغاً سياسياً يسعى فيه الفاعلون الآخرون إلى إيجاد حلولهم المزعزعة للاستقرار في كثير من الأحيان. ولقد لاحظ اللاعبون الإقليميون بالفعل أن المسؤولين الأمريكيين قد قللوا من أهمية المصالح الأمريكية من حل النزاع إلى إدارة الصراع. لكنهم أشاروا أيضاً إلى أنه من الناحية العملية، يبدو أن فريق بايدن قد خفض تصنيف الولايات المتحدة من إدارة الصراع إلى إهمال حميد. وبعد قراءة هذا النمط الجديد للتعامل في واشنطن، سيتوقع السوريون والمنطقة المحيطة بهم إشعالَ المزيد من الحروب.