مارثون من اللقاءات والمباحثات السياسية والاقتصادية والأمنية جمعت الفرقاء المتشاكسين في الملفّ السوري لم تُفرز سوى مزيد من التعقيد في المشهد الشائك.
أبرز تلك المباحثات اللقاء الروسي الأمريكي في جنيف الذي كان من المتوقّع أن ينتهي باتفاق على ترتيبات جديدة، إلا أنّ تصريحات نائب وزير الخارجية الروسية سيرغي ريابكوف قال فيها إنّ لدى الولايات المتحدة سيناريو لتقسيم سورية تعارضه موسكو، معتبراً أنّ الوجود غير الشرعي لأمريكا سبب رئيسي لاستمرار النزاع في سورية بددت تلك التوقعات.
ساعات فصلت بين لقاء جنيف واستدعاء بوتين لبشار الأسد وجّه خلاله "الكرملين" رسائل عدة لكلّ الأطراف الفاعلة على الأرض السورية، ولم يفوّت الفرصة ليهاجم الوجود الأجنبي في إشارة إلى القواعد العسكرية الأمريكية شمال شرقي سورية وفي التنف على الحدود العراقية الأردنية السورية المشتركة.
ويبدو الفاعلون على الأرض أكثر تمسّكاً بمواقفهم التي تحكمها المصالح وشبكة العلاقات والارتباطات المعقّدة؛ فما زالت أمريكا مصرّة على تغيير سلوك النظام السوري عبر القَبول بنظام حكم لا مركزي لتحقيق هدفها في إنشاء مناطق حكم ذاتي، وهو ما أشار إليه ريابكوف بعد لقائه منسّق سياسة الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي بيرت ماكغورك، معتبراً أنّه سيناريو لتقسيم سورية في مقابل إصرار موسكو على المركزية وما تسمّيه وحدة الأراضي السورية، إذ تلتقي مع أنقرة في هذا التوجه.
أنقرة التي تبحث عن تفاهماتٍ أمنية وعسكرية في سورية تحيّد خطر PKK وتُنهي مساعي إقامة كيان كردي على حدودها، في وقت تطفو على السطح سيناريوهات حول مستقبل الوجودي الأمريكي العسكري مع اقتراب موعد تخفيض قوات الأخيرة في العراق نهاية العام الجاري، العراق الذي يستضيف لقاءً أمنياً يجمع الجانب التركي والسوري لبحث ترتيبات الشمال السوري في المرحلة التي تلي الانسحاب الأمريكي الذي تلّوح به موسكو خلال مباحثاتها مع "قسد" بكثرة في الآونة الأخيرة، وهي تدفع تلك الميليشيا (قسد) باتجاه النظام السوري لتحصيل مزيد من المكاسب في أيّ اتفاق قادم، خاصة أنّ احتمال قيام أنقرة بعمل عسكري جديد في المنطقة يتزايد بعد لقاء الرئيس التركي بالرئيس الأمريكي على هامش أعمال الجمعية العمومية في الأمم المتحدة قبل لقاء سيجمع أردوغان مع بوتين نهاية الشهر الجاري.
لقاءات قد تُنتج نماذج لحلول سياسية وعسكرية هجينة في وقت تبرز فيه جهودٌ محورُها بغداد، وتقف خلفها فرنسا التي تحاول إعادة صياغة ملفّات المنطقة عبر إعادة تشكيل الدولة في العواصم العربية التي تحتّلها إيران باستثناء صنعاء، وهي محاولات لا تروق لكثير من الجهات وعلى رأسها الإدارة الأمريكية الديمقراطية التي تنتهج سياسة للحفاظ على ديمومة الأزمات والاستثمار فيها، وروسيا التي تتخوّف على مصالحها الاقتصادية ونفوذها المتنامي في سورية، وهو ما يدفعها لعرقلة مشروع خطّ الغاز "العربي" الذي يمثّل عصباً مهماً في مشروع الشام الجديد (العراق – الأردن – مصر)، وهو مشروع يقود إلى نوع من المصالحة العربية مع الوجود الإيراني في المنطقة.
ويظهر أنّ أنظمة الدول العربية سلّمت بنفوذ إيران السياسي والاقتصادي والثقافي والأمني بعد وصول الديمقراطيين إلى البيت الأبيض، وتبحث معها عن صيغة جديدة لوجودها العسكري، صيغة هجينة تمزج بين الجيش النظامي والحالة الميليشاوية كما هو الحال في "الفرقة الرابعة" التابعة إلى إيران، والتي حاولت تقديم نفسها خلال الأشهر الماضية عاملاً مقاوماً للحالة الميليشياوية الفجّة، فاشتبكت مع مجموعات إيرانية وعراقية وأفغانية غير مرّة في حلب ومحيط السيدة زينب والقلمون، إلا أنّ هذا النموذج لم يلقَ قَبولاً دولياً أو إقليمياً بالقرب من الحدود مع الجولان المحتلّ، وفشلت إيران في إدخال تلك المجموعات إلى مناطق التسويات الجديدة في درعا لصالح دخول قوّات أقرب إلى موسكو.
تسويات تزامنت مع لقاءات روسية إسرائيلية في موسكو أنتجت آلية جديدة لإبعاد إيران عن الحدود الشمالية، مع تأكيد "تل أبيب" على عدم السماح لطهران بتفعيل نِقاطها العسكرية جنوبي سورية وتهديد أمنها، عِلاوة على رفضها القاطع امتلاك إيران للسلاح النووي، وهو ما تعمل مع واشنطن على إنجاحه مع موافقة على تمرير الاتفاق النووي المتعثّر شريطة الحصول على ضمانات أمريكية تحفظ لإسرائيل استفرادها بامتلاك الأسلحة النووية في المنطقة.
مع مرور الوقت تبدو المسألة السورية أكثر تعقيداً؛ إذ تشتبك الأهداف وتضيق مساحات المناورة ويعود التسخين ليسود المشهد كما يحدث الآن في إدلب، ويبتعد اللاعبون عن الوصول إلى تفاهمات حقيقية تُطبَّق على الأرض وتفسح المجال لتمرير حلول مستدامة، مع استمرار النهج الأمريكي البارد تحت شعار تغيير سلوك النظام الذي يربط التغيير بالسيطرة على كامل الأراضي السورية والاستحواذ على مقدّراتها وضبط الأمن فيها، الأمر الذي يبدو بعيداً أو مستحيلاً في الأقلّ في المدى القريب والمتوسّط.
غياب المبادرة الأمريكية مثّل حالة من الجليد تسعى دول الإقليم لكسره عبر طرح أردني يقال أنه حصل على تأييد إقليمي ودولي ودعوة تركية لتغيير ذلك النهج جاءت على لسان مستشار الرئيس التركي ياسين أقطاي مع اقتراب الجولة الجديدة من اجتماعات جنيف لصياغة الدستور، بعد تعطيل متكرّر ومستمرّ على مذهب "سنغرقهم بالتفاصيل" وبيع الأوهام وشراء الوقت والمراوغة السياسية التي يتقنها نظام الإجرام الأسدي.
إنّ صياغة توازن جديد في بلد تعصف به الأزمات بين الدولة واللادولة (وهو من سمات ما بعد كورونا)، وبين المركزية واللامركزية، ومزيد من الفصل بين الملفات السورية لإيجاد حلول ترقيعية تبدّد مخاوف الإقليم وترفع عن كاهل الدول الكبرى المسؤولية الشكلية في استمرار المأساة السورية، والاستمرار بالدوران في هذه الحلقة المُفرغة يعني أنّنا ما زلنا نتّجه نحو اللاحل، بل نحو الانفجار، ما سينعكس على كلّ اللاعبين سلباً.