أهل السُّنة في سورية (وافتتاحي للمقال بهذا اللفظ ربما يثير حفيظة كثيرين) لم يكونوا يوماً طائفيين بل كانوا بحكم كونهم الأغلبية الساحقة في سورية يتعاملون مع بقية الطوائف باحترام لخصوصيتهم، وظلت الأمور في سورية ضِمن دائرة الاحترام المتبادل بين الأكثرية السُّنية والأقليات الطائفية، فالأكثرية تراعي الأقليات وتحرص على حقوقها، والأقليات يعرفون حق الأكثرية وحجمها ومكانتها، حتى حقبة الستينيات حين كشر الأسد الأب وزمرة من الضباط من أبناء طائفته عن أنيابهم وشرعوا في تطييف كل شيء في سورية ابتداءً بالجيش.
ولكونهم يدركون أنهم أقلية طائفية فقد سعَوْا لتورية طائفيتهم تحت شعارات تجريم الطائفية ومحاربتها ظاهراً، ونشرها وتمكينها وتجييرها لصالح طائفة الأسد في الخفاء، حتى تم لهم السيطرة على أهمّ المفاصل في الدولة السورية ثم ليتوج ذلك كله باستيلاء الأسد الأب على الحكم في سورية مطلع السبعينيات، أعقبها مباشرة مرحلة تدجين للأكثرية السُّنية عَبْر الشعارات الخدّاعة وغسيل الأدمغة تارةً، وتارةً أخرى بارتكاب أبشع المجازر بحقهم.
ظل هذا الرعب ورُهَاب التطييف يهيمن على الأكثرية السُّنية رغم كل الشناعات التي وقعت لهم وسَفْحِ حقوقهم وهَدْرِ كرامتهم حتى ما بعد اندلاع الثورة السورية، والتي كان لأهل السُّنة الحصة الأكبر وربما الوحيدة (عدا بعض الاستثناءات) من القتل والتنكيل والبطش والتهجير لدرجة مسح بلدات وقُرى من وجه الأرض بالكامل، ورغم كل ذلك احتفظت الأكثرية السُّنية بتوازُنها واعتدالها ضِمن الأُطُر الوطنية مع كافة الطوائف والإثنيات وتمسكت باحترام خصوصية تلك الأقليات وحقها بالوجود ضِمن الفسيفساء السورية.
لكن ما حصل قبل أيام مختلف تماماً عن كل ما سبق وتحوُّل مهم ومفصلي في التاريخ السوري، حيث أصدر رأس نظام الإجرام مرسوماً يلغي بمقتضاه منصب مفتي الجمهورية ويُرجع مهامّه لمجلس علمي فقهي يتبع وزارة الأوقاف ويحوي عدة طوائف.
المفتي السابق أحمد حسون بالطبع كان مثالاً كريهاً وشديد السوء لهذا المنصب وقد أُزيح منه غير مأسوف عليه. لكن حديثنا هنا ليس عن شخص المفتي بحد ذاته بل عن رمزية منصب الإفتاء في سورية والذي يمثل بطبيعة الحال المرجعية السُّنية والهُوِيَّة الإسلامية لسورية.
وبهذه المناسبة لا بُدَّ من الإشارة لصوابية الخُطوة التي اتخذها سابقاً المجلس الإسلامي السوري بإعلانه عما سمي حينها "وثيقة الهُوِيَّة" فقد كان بعيد النظر مستشرفاً للأهداف الحقيقية للتغلغل الإيراني في سورية وحجم تأثيرها في هُوِيَّتها ونسيجها الاجتماعي والتغيير الديمغرافي والعقائدي المنظَّم الذي يتعرض له السوريون جنباً إلى جنب مع المجازر المروِّعة والقتل والتهجير المستمر منذ عشر سنوات. حينها للأسف انتقد المجلسَ كثيرون، واعتبر آخرون الوثيقة تطييفاً غير مقبول وشُنَّتْ عليه حملات إعلامية قاسية.
لكن اليوم بات من الواجب على الأكثرية السُّنية أن تَعِيَ حجم الخطر الذي يتهدد كينونتها ووجودها، وأن تنتفض عقب إلغاء الأسد الابن للمرجعية السُّنية في سورية. وعلى المجلس الإسلامي السوري أن يتحمل مسؤوليته التاريخية في هذا المنعطف الخطير والحسّاس كمرجعية للسوريين المسلمين السُّنة، للتصدي لحملات النظام الطائفي في سورية، والتي ترمي للتغيير الديمغرافي والمذهبي والهُوِيَّاتي للسوريين لصالح المشروع الإيراني في المنطقة.
الدَّرْوَشة والمثالية والأفلاطونية والخضوع لابتزاز الاتهام بالطائفية أوصل الأكثرية السُّنية في سورية لشفير الإلغاء ونَسف هُوِيَّة سورية وتاريخها وجذورها بالكامل ولم يَعُدْ ثَمَّةَ مَناص من السعي للحفاظ على الوجود والجذور، ومطلوب من كافة الطوائف السورية دعمهم وتأييدهم ورفض هَدْر حقوقهم وإلغاء وجودهم كأكثرية، فهذه الأكثرية بما عُرف عنها من احترام للأقليات وتعايُش سلمي معها طيلة قرون ومراعاة خصوصيتها هي الضامن الأكبر لهذه الأقليات والطوائف في سورية؛ لأن البديل عنها والذي يسعى الأسد لتكريسه هو أكثرية شيعية حاقدة وشرسة لا تمتّ لبني البشر بصلة ولا تعترف لغيرها بحق الوجود أو الاختلاف.
الجميع اليوم أمام منعطف تاريخي في سورية، فإما أن يتحمل الجميع هذه المسؤولية التاريخية ويتم تجاوُزه مُتَّحِدِين، أو سنكون أمام شرخ هائل وتصدُّع في النسيج السوري لا يمكن التكهن بحجم ضرره وخطره ومَآلاته.