ستضغط بكين من أجل مزيد من النفوذ في باكستان؛ وستجرِّب موسكو في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق في آسيا الوسطى.
إن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ينتهي بشكل مأساوي -وهذا له تداعيات إستراتيجية كاسحة. كان أحد الأخطاء الرئيسية الكامنة وراء شعار "إنهاء الحروب التي لا نهاية لها" هو أن الانسحاب لن يؤثر إلّا على أفغانستان. بل على العكس من ذلك، فإن الرحيل يُشكِّل إعادة ترتيب إستراتيجية كبرى ومؤسفة للغاية للولايات المتحدة. حيث تسعى كلّ من الصين وروسيا، عدوَّيْنَا العالمييْنِ الرئيسييْنِ، بالفعل إلى جَنْي الفوائد.
إنهم والعديد من الآخرين يحكمون على ترك أفغانستان ليس فقط على العواقب المباشرة على التهديدات الإرهابية العالمية، ولكن أيضاً لما يقولونه عن التخلّي عن أهداف الولايات المتحدة وقدراتها ومدى حزمها على مستوى العالم.
على المدى القريب، استجابةً لكل من التهديدات والفرص الناشئة من أفغانستان، ستسعى الصين إلى زيادة نفوذها الكبير بالفعل في باكستان؛ وستفعل روسيا الشيء نفسه في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق في آسيا الوسطى. وكِلاهما سوف يوسِّعان مبادراتهما في الشرق الأوسط، غالباً جنباً إلى جنب مع إيران. هناك القليل من الأدلّة على أنّ البيت الأبيض مستعدّ للردّ على أي من هذه التهديدات.
على المدى الطويل، تتمتع بكين وموسكو بتقسيم طبيعي للعمل في تهديد أمريكا وحلفائها، في ثلاثة مسارح متميزة: الصين على محيطها الطويل من اليابان عَبْر جنوب شرق آسيا إلى الهند وباكستان؛ روسيا في أوروبا الشرقية والوسطى بالإضافة إلى الوفاق الودّي الروسي الإيراني الصيني في الشرق الأوسط. لذا يجب أن يفكّر المُخَطِّط الأمريكي في العديد من التهديدات التي تظهر في وقت واحد عَبْر هذه المسارح وغيرها.
وهذا يؤكّد مدى توتّر قدراتنا الدفاعية لحماية مصالحنا البعيدة، لا سيما بالنظر إلى الإنفاق المحلّي غير المسبوق الذي يطلبه الرئيس بايدن الآن. وبالتالي، فإنّ أهمّ مهمّة لواشنطن هي بطريقةٍ ما تأمين زيادات كبيرة في ميزانيات الدفاع بما يجابه طيف التهديد الكامل، من الإرهاب إلى الحرب الإلكترونية, فالدبلوماسية وحدها ليست بديلاً.
لن يتأثر "شي جين بينغ" بتأكيد السيد بايدن أن أمريكا بحاجة إلى إنهاء الأنشطة العسكرية في أفغانستان لمواجهة الصين بشكل أكثر فعالية. بدلاً من ذلك، أمام بكين فرص جديدة: تعزيز مصالحها في أفغانستان وباكستان؛ والحماية من انتشار الإرهاب في الصين؛ وزيادة الجهود لإرساء الهيمنة على محيطها، خاصة فيما يتعلق بتايوان وبحر الصين الجنوبي والهند.
تتلاءم هذه المبادرات بسلاسة مع التهديد الوجودي لبكين للغرب، والذي يمتدّ إلى ما هو أبعد من كارثة أفغانستان. على النقيض من ذلك، تتخبط واشنطن في مناورات تكتيكية وردود ارتجالية على حيل صينية معيّنة. أفغانستان هي الدافع الملحّ لحشد تفكيرنا المفاهيمي والإستراتيجي الأعمق؛ أثناء القيام بذلك، يمكننا الاستحواذ على الفور على العديد من النقاط السياسية المهمّة. وللقضاء على الغموض حول التزامنا الدفاعي لتايوان، على سبيل المثال، يجب أن نضع قوات عسكرية هناك. وعلى مستوى التواجد في المسارح، فنحن بحاجة إلى زيادات في الميزانية لتعزيز وجودنا البحري في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، وبالتالي إنشاء الردع ومواجهة مطالبات السيادة الصينية.
يجب تكثيف علاقاتنا الدفاعية مع الهند وفيتنام وغيرهما كما يجب أن يتوسّع نطاق "الرباعية" (الهند واليابان وأستراليا والولايات المتحدة) بشكل كبير ليشمل قضايا الدفاع الجماعي وينبغي على الرباعية نفسها أن تنظر في التوسّع. كما يجب علينا أن نحمّل الصين بشكل متزايد المسؤولية عن سياستها الخطيرة المتمثلة في انتشار الصواريخ الباليستية والتكنولوجيا النوويّة لأمثال باكستان وكوريا الشمالية.
مما لا شك فيه أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان مسروراً برؤية رئيس أمريكي ضعيف واهن في قمتهما في حزيران/ يونيو، مستذكراً خروتشوف بعد لقائه جون إف كينيدي في عام 1961. تنازُلات بايدن اللاحقة على نورد ستريم 2 وأفغانستان جعلت السيد بوتين يبتسم بالتأكيد على نطاق واسع. وسيعمل بقوة في آسيا الوسطى لوقف أي إرهاب متجدد، لكن تركيزه على المدى الطويل يظلّ على جيران روسيا الأوروبيين.
يرى بوتين حالة من الفوضى في أوروبا، التي تخشى عودة الصراع المستشري، إلى حد كبير؛ لأنها تخشى تعثّر أمريكا، وحتى الانسحاب بشكل كبير من الشؤون العالمية. وعلى الرغم من أن الرئيسين ترامب وبايدن لا يشكّلان توجُّهاً دائماً، فالأول كان انحرافاً؛ أما هذا الأخير فهو مجرد ديمقراطي نموذجي. وقد أدّى فشل بايدن في تحذير حلفاء منظمة حلف شمال الأطلسي من خروجه من أفغانستان إلى زعزعة مستويات الثقة الضعيفة بالفعل. فالدعوات الحتميّة لدور سياسي – عسكري "أوروبي" أكبر ستلاقي مصير الجهود السابقة. ولا يمكن أبداً أن يكون الاتحاد الأوروبي لاعباً جيوستراتيجياً عالمياً لأنه عادة يقوم بنشر الخطابات أكثر مما يقوم بتقديم الموارد.
وهذا يسمح لحلف الناتو، الذي خفَّف عنه السيد بايدن، مرة أخرى ليشعر بالرضا عن الذات، بإهمال الحلفاء بشأن أفغانستان. بدلاً من إلقاء اللوم على واشنطن لكونها تدخُّليّة أكثر من اللازم وبعد ذلك لعدم تدخُّلها بما فيه الكفاية، يتعين على أوروبا أن تقرّر ما إذا كانت تقدّر مسألة الدفاع الجماعي عن النفس في حلف شمال الأطلسي وتأخذها على محمل الجد، أو أن الأمر سيكون لمجرّد الحصول على شرف المشاركة فيه. عندما تقوم ألمانيا وغيرها بمطابقة قدراتها الدفاعية مع اقتصاداتها، فإن آراءهم ستكون مهمّة. وأثناء الانتظار، يجب على الولايات المتحدة العمل مع التحالفات شِبه التابعة لحلف شمال الأطلسي، ومعظمها من وسط وشرق أوروبا، وتهديد الدول غير الأعضاء في الناتو وفي تكتلات تلك الدول، لمواجهة غرائز السيد بوتين الإمبريالية ويمكن تعديل وضع القوّة لدينا في أوروبا وفقاً لذلك.
في الشرق الأوسط، إيران هي المورِّد المفضَّل للنفط للصين وشريك روسيا في دعم بشار الأسد في سورية. بالنسبة لبكين وموسكو، تعتبر طهران بديلاً للقيام بأعمال زعزعة الاستقرار، وهي بمثابة إحباط لتوسيع نفوذهما في جميع أنحاء المنطقة، وهو ما أظهرته مؤخراً اتفاقية التعاون العسكري بين روسيا والمملكة العربية السعودية. فالرياض تتحوّط ضد الرفض الأمريكي والتحالف المحتمل مع طهران على غرار ما جرى في عهد أوباما. ويخشى عرب الخليج أن انسحاب أمريكا من أفغانستان قد يُنذر بالشيء نفسه في العراق، أو حتى من القواعد الجوية والبحرية الأمريكية الرئيسية في بلدانهم. ومَن منّا لا يتحوَّط من ذلك؟
يجب ألا تنضم واشنطن مجدداً إلى الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015. هذا الجزء سهل، على الرغم من أن إدارة بايدن ما زالت لا تفهمه. فكلمة السرّ تكمن في الاعتراف بأن أهداف إيران تتعارض بشكل أساسي مع أهداف أمريكا وإسرائيل ومعظم العالم العربي. إن تغيير حكومة طهران هو الوحيد الذي يحظى بفرصة تقليل التهديدات في جميع أنحاء المنطقة، وهو آخِر شيء تريده الصين وروسيا.
للأسف بالنسبة لأولئك الذين يعتقدون أن الانسحاب من أفغانستان كان قراراً لمرّة واحدة مع عواقب محدودة، فإن العالم أكثر تعقيداً بكثير. النتائج سلبية للغاية بالفعل، وتستثمر الصين وروسيا في جعلها أسوأ. الأمر يعود إلينا والقرار بيدنا.
المصدر: وول ستريت جورنال
ترجمة: عبد الحميد فحّام
Author
-
مؤلّف كتاب (مذكّرات البيت الأبيض) شغل منصب مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي، وسفيراً لدى الأمم المتحدة