نداء بوست – ترجمات – فورين بوليسي
قام الرئيس بايدن بإبلاغ الشعب الأمريكي في أوائل شهر تموز/ يوليو بانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان بعد مشاركة عسكرية استمرت 20 عاماً، مما يشير إلى خطة بايدن لتقليص مكانة أمريكا في الشرق الأوسط الكبير. لقد كان الانسحاب كارثة عسكرية وسياسية. وبالمثل، وضع الرئيس بايدن اللمسات الأخيرة على اتفاقية في شهر تموز/ يوليو لإنهاء المهمة القتالية الأمريكية في العراق بحلول نهاية العام، مع اقتصار القوات المتبقية على التدريب وتقديم المشورة.
وفيما يتعلق بالمأزق النووي الإيراني، يبدو أن إدارة بايدن حريصة على إزالة القضية من أجندة سياستها الخارجية، حتى على حساب تقديم تنازلات من شأنها أن تُبقي إيران قريبة من القدرة على امتلاك السلاح النووي.
يبدو أن قرارات السياسة الخارجية هذه تشكل اتجاهاً طويل المدى لتقليل التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط، وقد بدأت هذه الحركة في عهد الرئيس أوباما وعكست حالة الضجر الناشئة عن التدخل الأجنبي بعد حربين فاشلتين (العراق وأفغانستان).
كما أن الدوافع الانعزالية الموجودة حالياً داخل الكثير من الجمهور الأمريكي تدعم أيضاً خفض تأثير الصورة العسكرية الأمريكية في الخارج. وما يعزز هذا هو تناقص أهمية الشرق الأوسط الغني بالنفط بالنسبة للولايات المتحدة لأنه أصبح أقل اعتماداً على الطاقة الأجنبية. ولكن في النهاية يتطلب تحوّل التركيز الأمريكي إلى التحديات التي تفرضها الصين تغييراً جذرياً في الأولويات والانتشار العسكري في جميع أنحاء العالم.
قد يكون لانسحاب القوات الأمريكية من الشرق الأوسط مزايا إستراتيجية فالأساس المنطقي لوجود عسكري عالمي متعاقد يتطابق مع ما أطلق عليه الإستراتيجيون الأمريكيون "التوازن الخارجي"، مما يعني أن الولايات المتحدة تمتلك عدداً أقل من القواعد الخارجية، ولكنها تحافظ على قدرتها العسكرية للتدخل في المناطق البعيدة عند الضرورة. وبهذه الطريقة، ستكون القوات الأمريكية أقل عرضةً لأهواء واستفزازات اللاعبين الإقليميين ولن يتم استخدامها إلا إذا كانت المصالح الأمريكية الحيوية على المحك.
لسوء الحظ، لا ينظر الجميع إلى تحركات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط على أنها تغيير في الإستراتيجية في سعيها للاحتفاظ بوضعها كقوة عظمى. فالتصور السائد هو أن الولايات المتحدة ضعيفة، منشغلة بالقضايا المحلية، وغير مستعدة لقيادة العالم الحر. ويشكك بعض حلفاء أمريكا في مصداقيتها كما يرى العديد من القادة أن أمريكا تتراجع عن دورها كشرطي عالمي.
وقد تمّ بثّ مثل هذه التقييمات في الماضي، لكن الولايات المتحدة تمسّكت بوضعها كقوة عظمى فمن أهم أهداف بايدن استعادة القيادة الأمريكية في الخارج ويبدو هذا التحدي أكبر من أي وقت مضى.
في الواقع، نرى أن دور الصين يصبح أكثر حزماً وبشكل متزايد، فهي التي وسعت سيطرتها على بحر الصين الجنوبي على الرغم من حكم أصدرته محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي في عام 2016 والذي أعلن أن أنشطة الصين داخل المنطقة البحرية للفلبين تعد انتهاكاً لسيادة البلاد. وفوق ذلك كانت الصين قد صعّدت مؤخراً من خطابها وأفعالها فيما يتعلق بتايوان.
ولقد غزت روسيا شبه جزيرة القرم، وحشدت 175000 جندي على طول الحدود الأوكرانية وشنّت حرباً منخفضة الحدة في الجزء الشرقي من البلاد،. وإضافةً إلى ذلك، أرسلت روسيا سلاحها الجوي لمساعدة النظام السوري كما تنتشر مرتزقتها في عدة دول.
وحتى القوى الأصغر، من الحلفاء أو الأعداء للولايات المتحدة، تصرفوا مع القليل من الاعتبار لتفضيلات واشنطن. فقد تدخلت تركيا عسكرياً في سورية والعراق وليبيا وأذربيجان كما تقوم باكستان بمغازلة الإسلاميين في أفغانستان. وتُعتبر كوبا وفنزويلا معاقل نشطة لمناهضة أمريكا إضافةً إلى أن إيران لم تكتف بتسليح وكلاء يسعون للسيطرة على الشرق الأوسط، بل هي تهاجم أهدافاً أمريكية دون عقاب.
إن تبنّي إستراتيجية موازنة خارجية تتناسب مع وضع القوة العظمى يتطلب قوّة عسكرية قادرة على إبراز القوة على الصعيد العالمي. وعلاوةً على ذلك فإن الأمر يتطلب قيادة أمريكية عازمة على استخدام القوة – إذا لزم الأمر – في مثل هذا العالم الذي نعيش فيه.
وقد أكّد تقرير حديث للبنتاغون على التحديث المثير للإعجاب وتقوية الجيش الصيني. حيث إن الولايات المتحدة متفوّقة في العديد من فئات الأسلحة على الصين، مثل الصواريخ الباليستية الأرضية (GLBM) وصواريخ كروز الأرضية (GLCMs). وقد اختبرت الصين صاروخاً تفوق سرعته سرعة الصوت بقدرة نووية في شهر آب/ أغسطس، مما أظهر قدرة على ما يبدو فاجأت المخابرات الأمريكية.
إن الحشد العسكري الأمريكي للمحافظة على التفوق في آسيا سوف يستغرق وقتاً ومزيداً من الأموال. وحتى لو كان الخوف من تدهور التفوق العسكري الأمريكي مبالغاً فيه، فإن رغبة أمريكا في العمل تظل موضع تساؤل في الخارج.
ويمكن للولايات المتحدة إعادة بناء مكانتها كقوة عظمى من خلال إظهار تصميمها على استخدام القوة العسكرية لتحقيق مصالحها الوطنية عند الضرورة فمكان اتخاذ موقف وتغيير الانطباع عن ضعف الولايات المتحدة هو إيران.
وكان أوباما قد عقد صفقة مع إيران شجعت سعيها للهيمنة وحثّتها على امتلاك أسلحة نووية. فلقد وفّر الاتفاق النووي لعام 2015 الوقت لإيران بما يكفل عدم مضايقتها من قبل الولايات المتحدة. وفي المقابل، أدرك الرئيس السابق ترامب أن جمهورية إيران الإسلامية هي عدو للولايات المتحدة ومصممة على امتلاك سلاح نووي. لكن أساليبه في إجبار إيران على تغيير سياساتها – بشكل أساسي الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية – كانت غير واقعية.
تسعى إدارة بايدن إلى حل وسط في صفقة جديدة مع طهران ولكنها تتجاهل عزم إيران على التقدم في المسار النووي والاستمرار في الالتفاف على العقوبات حيث يعتمد بقاؤها على تحقيق هذا الهدف وكوريا الشمالية هي النموذج.
وبالإضافة لذلك فإن إيران ترى أن الولايات المتحدة ضعيفة، وليس لديها الشجاعة لاستخدام القوة إذا لزم الأمر ولذلك أذلّت طهران واشنطن باستبعاد وجودها في المحادثات الجارية وباستخدام تكتيكات المماطلة لتحقيق ما تصبو إليه.
هناك أوقات في العلاقات الدولية قد يكون فيها الخيار العسكري هو الخيار الوحيد المتبقي، فقد أعلنت واشنطن معارضتها الشديدة لقنبلة نووية إيرانية. كما يدعم حلفاؤها الأوروبيون هذا الموقف وحتى روسيا والصين لا مصلحة لهما في أن تصبح طهران دولة نووية.
ويجب على واشنطن أن تغرس الخوف في قلوب أعدائها إذا أرادت أن لا يسبب الشرق الأوسط قدراً كبيراً من الضرر لمكانة الولايات المتحدة وأمنها. فلا يزال لدى الجيش الأمريكي ما يكفي من اللكمات لمعاقبة المعارضين الإقليميين وبث الخوف إذا لزم الأمر. وقد يأتي وقت قريب يتعين فيه على إدارة بايدن إظهار استعدادها لاستخدام القوة مع إيران، لإرسال رسالة واضحة مفادها أن أمريكا لا تزال جادة بشأن كونها قوة عظمى.