نداء بوست – ترجمات – ذا أتلانتيك
إن قِلّة من المسؤولين السعوديين هم أكثر صراحة أو سخونة هذه الأيام من الأمير تركي الفيصل، نجل الملك الراحل فيصل والسفير السابق في واشنطن. فعلى الرغم من أنه لم يعد يشغل منصبًا حكوميًا، إلا أن الأمير يحتفظ بنفوذ ورؤية ثاقبة للمملكة، وبفضل حياته المهنية التي امتدت لعقدين من الزمن كرئيس لمخابرات الرياض، فإنه يتفهم بشكل أفضل من أي شخص تنافس المملكة مع إيران، لذلك لم أتفاجئ بتقييمه الصريح للوضع الحالي حين قال لي: "لقد حاصرنا الإيرانيون". (و كان يتحدث في جلسة خاصة وأكد لي لاحقًا أنه يمكنني الاقتباس منه).
يجب أن تشعر المملكة بالأمان الكافي في مواجهة خصم تخنقه العقوبات، واقتصاده أقل من ثلث حجم اقتصادها، وميزانيته العسكرية أقل من ربع ميزانية المملكة، والذي يبلغ إنتاجه النفطي في أقصى حالاته أقل حجم انتاج للملكة.
ومع ذلك، فإن القلق داخل السعودية، وهي مملكة عربية سنية، تجاه إيران، وهي دولة دينية شيعية فارسية، كان ثابتًا على مدى العقود القليلة الماضية، وليس بدون سبب.
ويتفاخر المسؤولون الإيرانيون منذ سنوات بأنهم يسيطرون على أربع عواصم عربية: بيروت ودمشق وصنعاء وبغداد، فعبر هذه البلدان، تدير طهران شبكة من الميليشيات التي من خلالها تستثمر القوة، وتستنزف الموارد المحلية، وتشكل حلقة من النار تطوّق من خلالها المملكة العربية السعودية بشكل أساسي.
إن نهج إيران الأرخص وغير المتكافئ في الحرب يمنحها ميزة على جيرانها الخليجيين الأغنى بقوات تقليدية مسلحة تسليحًا جيدًا ولكن أقل خبرة ويضاف إلى ذلك برنامجًا نوويًا يتقدم بخطى سريعة، لذلك فالأمير تركي محق تماماً أو على الأقل كان سيظل كذلك حتى وقت قريب جدًا لأن التحولات الطفيفة والخطيرة في الشرق الأوسط تجعل إيران تشعر بعدم الأمان والمحاصرة.
ومن المفارقات أن هذا هو السبب في أن طهران تتصرف بثقة زائدة، وكل ذلك يؤدي إلى مزيج خطير على دول المنطقة.
دعونا نبدأ ببرنامج إيران النووي، فقد كانت طهران تأمل في أن تبشر رئاسة جو بايدن بعودة سهلة وسريعة للاتفاق النووي الذي انسحب منه دونالد ترامب، وسيأتي معه رفع العقوبات، لكن إدارة بايدن كانت أكثر صلابة مما توقع الإيرانيون فبعد مرور عام تقريبًا على تولي بايدن منصبه، لا تلوح في الأفق أي راحة للاقتصاد الإيراني لا بل إنه قد انكمش بنسبة 7 في المائة من 2019 إلى 2020، وتراجعت العملة المحلّية.
وقد كانت قد ارتفعت صادرات النفط الإيرانية إلى 2.5 مليون برميل يوميًا في عام 2016، بعد دخول الاتفاق النووي حيز التنفيذ، ثم انخفضت إلى 400 ألف برميل يوميًا في عهد ترامب. وفي عهد بايدن، ارتفعت صادرات النفط بشكل طفيف، ولكن بشكل ضئيل، وتعززت احتياطيات البلاد فقط بفضل ارتفاع أسعار النفط.
وفي عهد ترامب، فقدت إيران الوصول إلى أكثر من 100 مليار دولار من احتياطياتها الأجنبية ولكن حتى الآن في عهد بايدن، لا تزال تلك المبالغ موجودة خارج حدود البلاد، في الحسابات المصرفية في جميع أنحاء العالم.
وتحتاج إيران إلى هذه الأموال لتحقيق الاستقرار في عملتها الوطنية، والحفاظ على استمرارية اقتصادها، ودرء الاحتجاجات. ومع ذلك، وعلى الرغم من كل هذا، لا تبدو إيران في حالة مزاجية مواتية للتنازل، وإنما هي مستمرة في تمويل وتطوير برنامجها النووي و ملاعبة القوى الإقليمية.
لكن تقييد الموارد لا يشكل مصدر قلق إيران الأكثر جدية فقد أخبرني أكاديمي إيراني مقيم في الخارج، طلب عدم الكشف عن هويته لأنه لا يزال يسافر بانتظام إلى طهران، أنه على الرغم من أن إيران غير قادرة على إنفاق ما كانت تنفقه في السابق على حلفائها ووكلائها الإقليميين (الرقم يقارب نصف ما كانت عليه في السابق في عام 2014، بانخفاض إلى حوالي 2 مليار دولار إلى 3 مليارات دولار سنويًا، حسب تقديراته)، فإن التحدي الحقيقي الذي يواجه طهران هو المشهد الإقليمي سريع التغير – وهذا هو بالتحديد سبب عدم تمكنها من التنازل عن المحادثات النووية.
أولاً، هناك الضربات الإسرائيلية المستمرة على القواعد العسكرية الإيرانية في سورية والتخريب المشتبه به للطاقة أو المنشآت النووية الإيرانية خلال العامين الماضيين.
وداخل سورية، يتعين على إيران أيضًا التعاون وأحيانًا التنافس مع الجيش الروسي الأقوى، مما يضعف بعض قوتها على الأرض.
والأمر الأكثر إرباكًا هو اندلاع الغضب الشعبي في بيروت وبغداد في خريف عام 2019 ضد الفساد والطائفية، والتي استهدفت أيضًا النفوذ الإيراني والميليشيات العميلة لطهران في كلا البلدين.
إن تورط إيران في لبنان والعراق لم يجلب أي فوائد اقتصادية لشعوب هذين البلدين، باستثناء أقرب حلفاء طهران أو قلة فاسدة، وفي غضون ذلك، يغرق كلا البلدين في حالة من الفوضى الاقتصادية.
ويصف كريم سجادبور، محلل شؤون إيران في مؤسسة كارنيغي (حيث أنا زميل غير مقيم)، هذه الديناميكية بأنها "محور البؤس"، وقد جاءت احتجاجات عام 2019 بينما كان الإيرانيون أنفسهم يتظاهرون ضد حكومتهم، و قد كانت تلك التحركات المختلفة من تظاهرات وغيرها من بين التحديات الأكثر تعقيدًا التي واجهها قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، في حياته المهنية.
فقد كان الإيرانيون قلقين بما فيه الكفاية من موجة السخط من أن سليماني كان متورطًا شخصيًا في حملات القمع العنيفة في البلدان الثلاثة، قبل مقتله في غارة أمريكية في العراق في شهر كانون الثاني/يناير من عام 2020.
واستمرت الاحتجاجات في الاشتعال في لبنان والعراق و في النهاية، أدى التحول المزاجي ضد طهران إلى هزيمة حلفاء إيران في الانتخابات البرلمانية الشهر الماضي.
وهذا لا يعني أن نفوذ إيران في العراق يتراجع، ولكن هناك خرق في قبضتها على البلاد. فبالكاد بعد شهر من الانتخابات، نجا رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بصعوبة من محاولة اغتيال على شكل هجوم بطائرة بدون طيار على منزله، وقد ألقى مسؤولون أمريكيون وعراقيون باللوم فيه على الميليشيات الموالية لإيران. وسواء أمرت إيران بالهجوم هو أمر غير ذي أهمية تقريبًا – إذا فعلت ذلك، فإن هذه الخطوة تدل على الغضب وانعدام الأمن؛ وإذا لم تفعل، فإن محاولة الاغتيال تشير إلى تخفيف سيطرتها على الميليشيات.
وفي لبنان، ردد المتظاهرون لأول مرة شعارات ضد حزب الله المدعوم من إيران وزعيمه حسن نصر الله، بما في ذلك في بعض المدن التي تتمتع فيها الجماعة بقوة أكبر.
ويبدو أن التحقيق في انفجار ميناء بيروت العام الماضي يثير قلق حزب الله. ففي هذا الصيف، شهدت سلسلة من حوادث اشتباكات بين أعضاء حزب الله وأشخاص من طوائف دينية مختلفة في مواقع مختلفة، وفي بلد به عدد كبير جدًا من الأسلحة، قُتل عضوان على الأقل من الجماعة الشيعية بالرصاص، مما يشير إلى أن هالة حزب الله التي لا تقهر تلقت ضربة.
وتأمل الجماعات المعارضة في لبنان في تكرار بعض النجاحات التي شهدتها العراق لإبعاد مقاعد برلمانية عن حزب الله وحلفائه خلال انتخابات العام المقبل.
وفي حين أن السخط الشعبي حقيقي وإيران تتعلم أن الهيمنة من خلال القمع والاغتيالات عمل شاق لا ينتهي أبدًا، فإن طهران ستستمر في نشر جميع الأدوات، بما في ذلك العنف، للإبقاء على قبضتها ممسكة بكافة المناطق التي يمتد نفوذها إليها.
فهل يمكن أن يترجم الضغط الشعبي ضد إيران إلى تغيير سياسي حقيقي؟ الإجابة المختصرة هي لا، على الأقل ليس بطريقة ذات مغزى، لأن هناك القليل من الآليات المحلية للتغلب على إيران وحلفائها الراسخين داخل لبنان والعراق.
يقودنا هذا إلى الديناميكيات الإقليمية وإدارة بايدن. فقد كانت الأشهر القليلة الماضية لعبة شطرنج ممتعة متعددة الأبعاد في جميع أنحاء الشرق الأوسط: فقد استضاف العراق محادثات بين المملكة العربية السعودية وإيران بالإضافة إلى زيارة وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة إلى دمشق. وقيام الأردن ومصر بوضع مقترحات للمساعدة في معالجة أزمة الطاقة في لبنان وتوقيع الأردن وإسرائيل والإمارات اتفاقية منفصلة للطاقة؛ والكثير غير ذلك. و بهذا النشاط الإقليمي، وهو في معظمه تعاوني، يفوق ما شهده الشرق الأوسط منذ سنوات.
إنه من السهل المبالغة في تفسير النوايا الكامنة وراء مثل هذه التحركات أو مقدار التفكير الاستراتيجي الذي ينطوي عليه الأمر. لكن ظهرت ثلاثة أنماط متوازية، وكلها تقلق طهران.
أولاً، يبدو أن الجهود المبذولة للتعامل مع إيران لتهدئة التوترات تبدو شكلية في الغالب، بما في ذلك من قبل السعوديين. ووصف وزير خارجية المملكة المحادثات في بغداد بأنها "ودية" و"استكشافية"، فيما قال مسؤول آخر إن الحوار يفتقر إلى الجوهر. ومن المتوقع أن يسافر وفد رفيع المستوى من دولة الإمارات العربية المتحدة إلى طهران في الأسابيع المقبلة. فلا أحد يتوقع أن تنتهي عقود من الخصومة والعداوة، ولا يوجد حتى الآن ما يشير إلى أن طهران تقدم ما يكفي للرياض لإعادة فتح السفارة السعودية في إيران.
ويمكن أن تساعد المشاركة الإقليمية مع إيران في تقليل التوترات بينما تتقدم المحادثات النووية عالية المخاطر إلى الأمام. وعلى أقل تقدير، يمكن للدول العربية أن تلجأ إلى الولايات المتحدة وتقول، في الواقع: "لقد تورطنا و كنا إيجابيين لكن لم نحصل على شيء".
ثانياً، ما من شيء خدم مصالح إيران في السنوات الماضية أفضل من الانقسام والخلل داخل الدول العربية. فقد أدت التحركات البغيضة مثل اختطاف الرياض لفترة وجيزة لرئيس وزراء لبنان في عام 2017، أو اندفاعها إلى الحرب في اليمن في عام 2015، إلى نتائج عكسية، مما أتاح لإيران فرصًا لتعميق مشاركتها في كلا البلدين.
فبعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، كانت المملكة العربية السعودية شريكًا مترددًا وغائبًا تقريبًا في عراق ما بعد صدام لصالح إيران. والآن يبدو أن الدول العربية تعمل سويًا على أساس مخصص لمعالجة قضايا الطاقة الإقليمية؛ حتى السعودية تناقش صفقات بمليارات الدولارات مع العراق. وقبل عامين، أخبرني مسؤول سعودي رفيع المستوى أن أفضل طريقة لمواجهة إيران ستكون من خلال رؤية اقتصادية للمنطقة.
وبالإضافة إلى ذلك، فبعد عقود من السلام البارد بين إسرائيل وجيرانها الأردن ومصر، وقّعت عدة دول خليجية معاهدات سلام مع إسرائيل، وهي مجموعة من الاتفاقيات المعروفة مجتمعة باسم اتفاقيات إبراهام، وتطور العلاقات العامة والتعاون بين إسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة.
فالإمارات العربية المتحدة كانت سريعة بشكل خاص، ولم تفعل الاتفاقات الكثير لمساعدة الفلسطينيين ولعبت في جهود الدعاية الإيرانية المستمرة منذ عقود لتصنيف نفسها على أنها المدافع الحقيقي الوحيد عن القضية الفلسطينية. لكن الاتفاقات تمثل أيضًا تحديًا استراتيجيًا حقيقيًا لطهران، التي تواجه الآن جبهة من الدول العربية التي تعمل بنشاط مع إسرائيل.
أخيرًا، هناك مبادرات من الأردن والإمارات للديكتاتور السوري بشار الأسد، في سياسة واقعية عملية في أفضل حالاتها، أو ربما أسوأها، فيجب أن يواجه الأسد المحاكمة في المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، لكن بعد 10 سنوات من بدء الانتفاضة السلمية تحوّلت إلى حرب دموية حيث كانت الغالبية العظمى من الضحايا نتيجة القصف الحكومي بمساعدة روسية فيما بعد فمن الواضح أن الأسد لن يرحل ولن تتم محاسبته.
ولقد تعرض الاقتصاد الأردني لضربة حقيقية خلال العقد الماضي بسبب إغلاق الحدود وخنق التجارة وتدفق اللاجئين الوافدين. وتختلف ضرورات الأردن للتواصل مع الأسد عن الإمارات، لكن كلاهما يتطلعان لإضعاف الوجود الإيراني في سورية ولو بشكل طفيف.
كانت محاولة إبعاد سورية عن إيران حلمًا قديمًا للكثيرين، بما في ذلك إدارة جورج دبليو بوش، لكن العلاقات عميقة بين دمشق وطهران منذ الأيام الأولى للثورة الإيرانية.
حتى الخلاف الدبلوماسي بين الرياض وبيروت قبل بضعة أسابيع يبدو أنه كان نتيجة جهد معقد من قبل المملكة لكسب نفوذ في لبنان مرة أخرى، بعد أن تنازلت عن علاقاتها مع لبنان لصالح إيران في السنوات السابقة.
وبمعنى آخر، تشير الدول العربية إلى طهران بأنها لم تعد اللاعب الوحيد في العراق ولبنان وسورية. (أما اليمن فهي مسألة مختلفة).
كل هذا النشاط الإقليمي يحدث مع قيام الولايات المتحدة بالتنسيق بهدوء خلف الكواليس، وتشجيع بعض التحركات مع تثبيط أو تجاهل أخرى (مثل المبادرات مع الأسد)، ولكن مع الحذر من الانخراط بشكل عام في المزيد من الدبلوماسية في المنطقة قبل المحادثات النووية مع إيران والتي استؤنفت هذا الأسبوع بعد توقف دام خمسة أشهر.
فدائمًا ما تكون الأزمة وشيكة في الشرق الأوسط، وإذا لم تسفر المفاوضات النووية مع إيران عن أي نتيجة، فسوف تتصاعد التوترات مرة أخرى و بسرعة.