طالما استمرت الحياة، تستمر مفاعيل ما أبدعته عبقرية شكسبير. في رائعته /" أوثيلو"-عُطيل /، يشغّل شكسبير "ماكينة" الغيرة، فتنتهي مشاهده ببركة من الدماء. تسحق آفة الغيرة قلب "إياغو" لإحساسه بأنه يستحق القيادة بدلاً من العبد "عطيل"؛ فيسعى إلى إشعال قلبه بالداء ذاته؛ فيقتل "عطيل" عشيقة روحه "ديدمونا"؛ ثم يقتل نفسه، بعد أن كانت دماء كثيرة قد سُفكت، وأرواح عدة قد أُزهقت.
مَن قال إن ما التقطته عبقرية "شكسبير" لا يزال يتغلغل في ثنايا حياة البشرية، وخاصة السياسية منها؛ حتى يومنا هذا؛ وسيبقى؟! من قال إن (هنري كيسنجر) لم يكن يرى في نفسه ملكاً من ملوك اليهودية، وأكثر استحقاقاً من (ريتشارد نيكسون) للرئاسة الأمريكية؟ ومَن يعتقد أن "كيسنجر" لم يكن ضالعاً في فضيحة "ووتر غيت" التي أودت بمعلمه سيد البيت الأبيض؟.
وهل كان (جيمي كارتر) المزارع من ولاية جورجيا أكثر فقهاً من وزير خارجيته (سيروس فانس) أو من ثعلب السياسة والدبلوماسية (برجينسكي) رئيس مكتب الأمن القومي، ليتركاه ينجز "كامب ديفيد" بالطريقة التي يشاء؟ أم فصّلوا تلك الاتفاقات بالطريقة التي أرادوا، وبإشراف "كيسنجر" ذاته، وختموا له رئاسته بـ 444 رهينة أمريكي بيد عصابات الخميني عام تسعة وسبعين، مهيئين المسرح لممثل هوليودي من الدرجة الثانية اسمه (رونالد ريغان)؟!
ألم يشعر (جيمز بيكر) أنه أكثر استحقاقا للرئاسة من معلمه "جورج بوش" الأب عندما هندَس تحرير الكويت، وبداية نهاية العراق؛ لتنتشر بعدها شائعة في أمريكا أن (بيكر) سيكون مرشحاً للرئاسة، وليحرم رئيسه من ولاية ثانية؛ ولا يحصل على الترشيح؛ وليأتي (كلنتون) دون حسد أو غيرة إلا من أولئك الذين دبروا له فضيحة "مونيكا لونسكي"، ليبتزوه دون أن يغاروا منه أو يسقطوه؛ وليتبعه (بوش) الابن الذي استخدمته إسرائيل مبعِدة عنه كل حسد أو غيرة كي ينجز لها نهاية العراق.
وفي عهد (أوباما)، الملوّن الأول في تاريخ أمريكا، الذي وصل إلى البيت الأبيض؛ والذي ذكرني بعطيل شكسبير، دون أن يكون ذلك القائد الجبار الذي لا يُشق له غبار. في فترته الأولى نافسته من الحزب الديمقراطي (هيلاري كلنتون) ؛ ولا بد أن المخلوقة قد شعرت أنها الأكثر استحقاقاً للرئاسة؛ لتعود وتقبل بوزارة الخارجية كجائزة ترضية؛ ولتكون الأفشل بين من احتلوا هذا المنصب؛ وأجزم أنه لا ضعفاً بها أو عدم اقتدار على خلق منجزات تُذكر؛ فلا أحد يستطيع أن ينكر أن لهيلاري دوراً خارقاً في رئاسة زوجها (بيل كلنتون) الناجحة لدرجة التألق. فما الذي أصابها كوزيرة خارجية تكاد تمر بلا ذكر في تاريخ هذه المؤسسة الجبارة؟ أهي الغيرة؟ أهي حالة من النكاية بالطهارة…؟ أهو إحساسها وإصرارها بأنها لا تريد أن تضيف أي منجز في سجل رجل شعرت أنه اختطف منها ما تستحق؟ وهل يمكن اعتبار كتابها الأخير الذي عرَّت به هذا المختطِف للبيت الأبيض دلالة على غيض وغيرة تحرق قلبها، فآثرت أن تقتص منه، حتى لو كان ذلك يؤذيها؟ ألم يكن كتابها الأخير سِجلاً من اللعنات والسقطات والتقصيرات التي أرادتها أن تدخل في سجل الرجل الذي تكره. ألم يدفع العالم وخاصة سورية برك دم لا بركة واحدة ثمن هذه الحالة المرضية؟!.
وإذا ما انتقلنا إلى فترة (أوباما) الرئاسية الثانية، فلن نجد أمامنا إلا العجوز "كيري" (الصديق الحميم للنظام السوري) عندما كان مرشحاً للرئاسة…. {ليس لدي وثائق؛ ولكن شِبه متأكد من خلال بعض الإطلالات على أحاديث داخلية جدا أن حملة الرجل تلقت دعما من السلطتين السورية والإيرانية… قد يكشفها الزمن}؛ "كيري" هذا ربما يشعر أيضًا ؛ بسجله الحافل بالإنجازات للجمهورية الأمريكية ؛ إنه أكثر استحقاقاً للرئاسة الأمريكية ممن جعله الرجل الثاني لا الأول. صحيح أن (أوباما) حصر كل السياسات الخارجية بيده شخصياً؛ إلا أن "كيري" – وعلى ضوء الفشل الذي أصاب السياسة الأمريكية الخارجية في عهده- لا يضيره أن يراكم لمن حرمه من البيت الأبيض ما تيسّر من الفشل؛ حتى ولو كان ذلك يدخل كنقائص في سجله الشخصي؛ فالبيت الأبيض أضحى غير ممكن أمام عمر الرجل الذي قارب الثمانين حينها.
لن أطيل الشرح عن عهد ترامب؛ إلا أن مَن كان يحسد ويرفض "ترامب" هو كل مَن ذكرت، والمؤسسات التي يتبعونها؛ فهو ابن غير شرعي لمؤسسة الرئاسة الأمريكية. هو ابن "الترامبية" التي ستعود لقيادة أمريكا بحلة أخرى، وقريباً؛ وخاصة أن من هزمها هو مؤسسة مَن ذكرت أعلاه، وليس "جو بايدن"؛ الذي لا يحسده أحد على ما هو فيه؛ وما هو إلا مرحلة انتقالية كي تتفرّغ المؤسسة لمواجهة عودة "الترامبية"، ولكن ليس بأدوات كنائبته أو وزير خارجيته، بل بشخص لا شبيه له إلا رعونة و"زعرنة" بوتين.
قد يستغرب القارئ إقحام المسألة الشخصية في السياسات الكبيرة؛ واستعداد الأشخاص لإيذاء أنفسهم والتأثير على مسيرات عمرهم لأسباب داخلية شخصية. ولكن مَن قال إن كل شيء في عالمنا مبرمج موضوعيا، والأمور الكبيرة المتعلقة بمصائر الأمم لا تحددها أو تقف وراءها مسائل خاصة وشخصية في كثير من الأحيان؟! من يخسر البيت الأبيض لن يتردد عن القيام بأي شيء حتى إيذاء نفسه. المصيبة في كل ذلك أن هناك شلالات من الدم والأرواح تُسفك وتُزهق في بقاع الأرض نتيجة أفعال تلك الأشخاص وتلك المؤسسات. رحم الله شكسبير؛ كم كان قاسياً وعبقرياً.