ما حدث بالأمس في "كازاخستان" الجمهورية السوفيتية السابقة، والأقرب لروسيا اليوم؛ وما سيتبعها من جمهوريات محيطة بالسيد بوتين، وما سيحدث في سورية قريباً بعون الله، إشارات مهمة تحدد طبيعة وملامح "إمبراطورية بوتين"، ورؤساء العصابات الذين يدورون في فَلَكه.
ربما ليس صدفة أن ترتبط صورة الروسي بصورة الدب، وما ذلك الارتباط بسبب جغرافي؛ فهناك مناطق موازية جغرافياً، ولكنها لم تنل "شرف" ذلك التوصيف؛ فليس شائعاً أن نسمع بـ "الدب الدنمركي" أو "الدب السويدي" أو "الدب الإسكيموي"؛ وليس إسباغ صفة "دب" على إنسان بإشارة إلى ذكائه أو حسن تصرفه لجهة فعلٍ خيّر نابع من حكمة وطيبة، أو فعل شر نابع من دهاء وخبث. إنه ببساطة إشارة إلى مخلوق تصرفه خَبْط عَشْواء، يقوده خبيث شيطاني بخيط قطن، ويرقّصه حتى الهاوية مروِّض أو مشغِّل مفتول العضلات أكثر منه.
ذلك الحيوان يثير الشفقة، ولكن عندما يلبس بزّة أنيقة، ويرسم سياسات، ويرسل أسلحة، ويستخدم طائرات سوخوي، ويوقع اتفاقيات استعمارية لتسع وأربعين سنة، ويستخدم الفيتو؛ وينسق مع إسرائيل قصفها للمنطقة التي يحتلها، ويوهم العالم برغبته بعملية سياسية ثم يخرج بتصريحات ومواقف تنسفها؛ فمخلوق كهذا لم يَعُد يثير الشفقة، وإنما السخط والكره، وضرورة المقاومة بأي شكل كان.
تلك الصورة الكاريكاتورية للسياسة الروسية وللقائمين عليها تصبح أكثر تراجيدية عندما نراها مرتسمة على مسرح الواقع. لا يمكن لأحد أن يستطيع إقناع السيد بوتين ووزير خارجيته بأن تعددية أو ثنائية قطبية عالمنا التي يناديان بها ليست أكثر من وهم صوّره بعض متحذلقي السياسة كجائزة ترضية ترافقت مع مسعى السيد بوتين لإحياء ركام الإمبراطورية السوفيتية. لا يكفي أن يكون للنسر الروسي رأسان، ليكون في العالم أكثر من قطب؛ فذلك النسر ذو الرأسين هو رمزياً أساس المأساة الروسية. لم تكن عبقرية أوباما هي التي أطلقت على روسيا صفة "دولة إقليمية قوية"، لقد كانت عقول العلماء والخبراء ومراكز بحوثه؛ فالقوة العالمية أو القوة الكبرى، ما هكذا تتصرف.
وبالتركيز على القضية السورية حصرا، لا بد من القول إن القوة العظمى لا تأكل أو تحمي "فطيسة"، أو تستمد منها قوة، أو تأخذها رهينة. روسيا البوتينية بعلاقتها بمنظومة الأسد تصرفت كدب يحمي فريسة، بعد أن عجز الضبع الإيراني عن حمايتها. إذا كانت أمريكا حمت إجرام إسرائيل في مجلس الأمن في مواقف كثيرة، فإنها كانت قد جندت قوى بحجوم روسيا بوتين اليوم، أو حيّدت قوى بحجم الاتحاد السوفيتي عندما كان بوتين صبياً. فأي قوى يجند أو يحيّد السيد بوتين اليوم، عندما يستخدم الفيتو لحماية الإجرام؟! وهل بوليفيا الجائعة، وإيران المارقة كافيتان لممارسة هذا الحق الخطير؟ القوة العظمى لا تُدخل نفسها في خيار أعمى كهذا، ولا تستخدم هذه العصا الغبية. كيف تكون قوة عظمى وأنت في حالة العزلة والنشاز هذه؟ ومن أجل ماذا؟! للحفاظ على منظومة مجرمة؛ وبالأكاذيب لا بالحقائق الدامغة؟؟!!
حتى صفة "القوة الإقليمية الكبرى"، التي أسبغها أوباما على روسيا لنفخها وتوريطها في الملف السوري، تبيّن أنها فضفاضة؛ وخاصة عند انتشار عبارة: "فشلت روسيا بـ….." على لسان إدارات أمريكية متعاقبة. فروسيا كما نشر الأمريكيون واقعيا فشلت بـ/ تثبيت وقف إطلاق النار في سورية، بـ/ وقف التهجير وإيصال المساعدات، بـ/ وضع حد للسرطان الإيراني، والأهم من كل ذلك، فشلت بـ/ ضمانها للاتفاق الكيماوي، وتعهدها بتسليم نظام الأسد كل ما لديه من أسلحة كيماوية/ ليتبيّن أنه لا زال يحتفظ بأسلحة كيماوية؛ والدليل استخدامه لها ضد مواطنيه. فالرهان على هذه القوة -إقليمية كانت أم كبرى- رهان بائس بأحسن حالاته. والأخطر يكمن برهانات هذه القوة على نظام مجرم، وما يتسبب لها ذلك من عزلة تجعلها بمصاف الدول المارقة لا الدولة العظمى.
كاتب سوري عاشق لكل ما هو روسي من أدب وفن وبشر قال لي مؤخراً "هؤلاء الروس يثيرون الشفقة". بدا مُستغرَباً أن يعبِّر سوريٌّ عن شفقة تجاه الروس الذين قتلوا من السوريين الآلاف بيدهم أو بآلات قتلهم بيد منظومة الأسد. ولكن عندما ترى التصرف الأرعن والوغد والأحمق تستدل أن مسلكاً لا يعبّر فقط عن دولة لا يمكن أن تكون قطباً أو دولة عظمى؛ ولكنها دولة مثيرة للشفقة لأن من يقودها عصابة مافيوية؛ وهذا يفسر تعلقها ودفاعها عن منظومة إجرامية أخذت سورية رهينة كل هذا الزمن.
يكفي للاستدلال على الغباء والوحشية سعيها لابتلاع الأمم المتحدة وقراراتها بخصوص القضية السورية؛ والتي هي ذاتها كانت قد وقّعت عليها.
فما معنى أن تستبدل "وقف إطلاق النار" بـ "خفض التصعيد" الذي زاد بتَفَلُّت وإجرام منظومة الاستبداد؛ ونسف "الانتقال السياسي" باختراع "اللجنة الدستورية" ثم الانقلاب عليها- كما فضح ذلك لافرنتييف مؤخراً؛ وإعادة التعمير" بـ "استمرار التدمير"؛ و"عودة اللاجئين" باستمرار "الاقتلاع والتهجير"؛ وحماية منظومة الإجرام بالتنسيق مع إسرائيل وضرباتها المتكررة؟؟!!… فأي "دولة عظمى" هذه، وأي دب نتعامل معه؟! وهل أخْذُ سورية رهينة يجعلها ورقة ابتزاز ومساومة لحلحلة ملفات مستعصية في أوكرانيا وجورجيا مع أمريكا وحلف الأطلسي؟!
غالباً يكون الاستعمار ذكياً وخبيثاً. لقد كان أول ما قابل به نابليون المصريين هو تعبيره عن احترام القرآن والتاريخ العربي والإسلامي؛ وما استهدف استعمار المشافي والأسواق والمدارس أو دُور العبادة؛ وكل هذه لم تنجُ من استهدافات الاحتلال الروسي. إذا كان الاستعمار الذكي قد خرج من بلادنا، فما بالكم بالاستعمار الغبي! إنه لن يخرج من تِلقاء نفسه، ولكن الزخم الدولي مضافاً إلى جهود وإرادة وتصميم أهل سورية وإرادتهم في الحرية والخلاص من الاستبداد، كفيل بخروج الاحتلال، وزوال ما يحميه. قد تصنع قوةٌ غاشمةٌ سلطةً، ولكنها لا يمكن أن تدوم. بالأمس كازاخستان، وغداً باقي الجمهوريات؛ ومنظومة الاستبداد الأسدية لن تكون استثناءً.