يُثير اللقاء "التركي- الروسي" في جانبه السوري شجوناً يختلط فيها عجز السوري بسخطه، بآماله، بضياع مصيره؛ فقضيته بيد غيره أصيلاً كان أم وكيلاً. وما حاله هذا نتاج ضعف متأصلٍ فيه، بل حصيلة إجرام منظم بحقه؛ كانت أداته منظومةً استبداديةً حاكمةً مجبولةً على الرخص والكذب والخيانة.
حسب هذه الأداة الإجرامية، روسيا هي "الحليف والصديق"؛ وتركيا "المحتلّ الداعم للإرهاب"؛ ولكن لم يعد خفياً على عاقل أن مَن ساهم المساهمة الكبرى بكل ذلك القتل والتدمير والتشريد هو ذلك "الحليف والصديق" دفاعاً عن الطُّغمة المجرمة؛ وأن مَن تسميهم أداة الإجرام "المحتلين وداعمي الإرهاب" هم من استقبل ملايين السوريين الهائمين على وُجوههم هرباً من البراميل وصواريخ سوخوي، "الأصدقاء والحلفاء"، الذين لم يسمحوا لسوريٍّ ابن سوري هارباً من الاستبداد أن تطأ قدمه أرضهم لتكون له ملجأً؛ فالمستجيرون من نار النظام "وأصدقائه" وجدوا على الأقل أماناً وإنسانيةً من "داعمي الإرهاب"؛ بينما "الأصدقاء، والإخوة" لم يكونوا أقل قسوة وشراسة وإهانة على الإنسان السوري من نظام الاستبداد ذاته.
يتذكر السوريون تدمير "الأصدقاء" الروس لما يقارب المئتَيْ مدرسة، ومئة وتسعين مشفى ونقطة طبية، وستين سوقاً؛ مستخدمين أكثر من مئتَيْ صِنْف سلاح "أثبت فاعليته العالية" حسب تصريحاتهم.
يتذكرون كيف وضع "الأصدقاء" يدهم على معظم موارد وخيرات سورية عبر عقود وامتيازات لسنين طويلة؛ ويتذكرون أنه عندما احتاج السوري رغيف الخبز وكمشة وقود؛ لم يتقدم "الأصدقاء والإخوة" لنجدته، بل ساهموا بإفراغ البنك المركزي السوري من الأموال ثمناً لحماية السلطة الحاكمة؛ أي أنهم تقاضوا أجر قتلهم للسوريين وتدمير بلادهم. وعندما كان نظام الاستبداد يعجز عن الدفع، كانوا يضغطون، فيهبهم "سيّد الوطن" أرضاً أو موانئ أو مشاريع ترهن سورية لعشرات السنين.
بعد هذا الحصاد الروسي المرّ الناتج عن الاستخدام الغاشم للقوة، والذي تواكب مع الجهود الروسية المضنية لإفراغ القرارات الدولية من مضمونها، وحرف المسار السياسي عن خطه في تحقيق انتقال سياسي في سورية؛ وبعد تغطيات إجرام النظام عبر "الفيتو" الروسي؛ وبعد المحاولات الدؤوبة لإعادة تكرير نظام الاستبداد؛ ها هي روسيا ذاتها ربما تسعى لفتح أبواب مختلفة بدأتها قمة "بوتين-بايدن" منذ أشهر؛ ليتبعها توافُق دولي حول إيصال المساعدات؛ إلى اتفاق في درعا، جعل منظومة الاستبداد وميليشيات إيران تظهر كمجرد عصابات قتل وتعفيش، وخارج المعادلة التقليدية المألوفة؛ هذا إضافة إلى مكوكية العاهل الأردني بين واشنطن وموسكو؛ وختاماً باستدعاء الأسد إلى موسكو، ليسمع ما لم يسمعه من قبل، وتحديداً بخصوص العملية السياسية؛ وصولاً إلى هذه القمة "الروسية- التركية".
بعد كل ما سبق، تأتي هذه القمة ربما لتستكمل الحراك الروسي الجديد؛ حيث سبقها تصريحات لوزير خارجية روسيا بضرورة اقتلاع ما سمّاه "بؤر الإرهاب" ؛ والتي ترافقت بتكثيف للقصف الروسي في الشمال الغربي السوري لعلَّ ذلك يشكّل أوراق ضغط على الشريك التركي لمساومة من نوع ما. تأتي القمة، وروسيا على علم بالفتور السياسي "المفيد" الحاصل بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية.
وقد يكون إعلان المبعوث الدولي "بيدرسون" عن موعد لانعقاد الجولة السادسة للجنة الدستورية باتفاق على منهجية عمل جديدة، والتزام بالقواعد الإجرائية حسب النظام الداخلي للجنة، والبدء بصياغة مواد دستورية؛ ومواكبته الزمنية للقمة "الروسية– التركية"، إحدى ثمار الحراك الروسي الجديد. يأتي الإعلان بعد أن خوَّن رأس النظام أطرافها، وبعد أن ماطل في استقبال "بيدرسون" لشهور، وبعد أن اعتبر دخوله اللجنة مجرد تكتيك لكسب الوقت.
ليس فقط "بوتين وأردوغان" مَن يعرفان أن منظومة الاستبداد لا تزال تكابر، وتعتبر نفسها "انتصرت" على "الإرهاب والمؤامرة الدولية والخونة"، بل العالم برمته يعرف ذلك. كما أن وضع سورية المأساوي اقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً غير خفيّ على أحد. ورغم كل ذلك، قد يكون الباب الجديد الذي تفكّر به القمة "الروسية-التركية" ليس أكثر من وَهْم، بسبب أداة الإجرام التي يحميها بوتين. فإذا كان بوتين ما زال يسبح في عالم البهلوانية السياسية، ويلتفت إلى عُقَد وألاعيب منظومة الاستبداد، فسيستمر بحصاد الخيبة ذاتها.
هناك مَن يفكّر بأن ما يحدث يصعب أن يكون لعبة جديدة؛ فكل البهلوانيات أخفقت. ومكابرة منظومة الاستبداد مكشوفة، ووصف منظومة الأسد للسوريين المعارضين بالمرتهَنين للخارج والخونة، ليس إلا جزءاً من التكتيك الأسدي المكشوف.
وبوتين ذاته يستشعر "المستنقع" الذي ورّط نفسه به؛ فها هي الثلاثة أشهر، التي تحدث عنها وقت دخوله سورية، أصبحت ست سنوات حصيلتها الدم والدمار والتشريد والضياع لبلد أتى حسب قوله "ليخلصه من الإرهاب"؛ فإذا به يتحوّل إلى قوة احتلال ساهمت بتدمير بلد بشعبه، وملفات إجرام هو الشريك الأساس فيها. ومن هنا لا مخرج له ولغيره إلا بحل سياسي يأخذ من القرار الدولي 2254 دليلاً وهادياً لإعادة سورية إلى سكة الحياة. مِن جانبه، هذا السوري الذي تختلط لديه مشاعر العجز والإحباط والسخط والأمل، لا بد أن يبقى متمترساً عند حقه بحياة حرة كريمة يستحقها.