في إحدى ما يُسمّى جولات جنيف "للمفاوضات السورية"، والتي كان فيها كل شيء إلا التفاوض مع ممثلي منظومة الاستبداد الأسدية؛ وخلال لقاء مع ما يُسمى ممثلي "الدول الداعمة للشعب السوري"؛ وبعد الاستماع إلى مداخلاتهم "الداعمة" التي لا يزال السوريون يحصدون بعض نتائج تلك "الجعجعة بلا طحين" حتى اللحظة؛ جاء دوري في الكلام؛ فقررت أن أسمعهم ما يستحقونه، ومن خلال ملامح وجهي الغاضبة، ربما استشعر البعض تلك المرارة التي يساهمون بها من خلال الظهور بمظهرٍ وسلوك غيره. كانت ترجمة تلك الحالة بسؤال بلاغي، لا يحتمل جواباً أطلقته: "لا أدري بأي لغة أخاطبكم؟!". ولكن أتى الجواب من ممثل الولايات المتحدة الأمريكية "مايكل راتني":( in Japanese بالياباني).
كان بالإمكان اعتبار ذلك الجواب على سؤال لا ينتظر الجواب "خفة دم" يُراد منها تلطيف أو ترطيب الأجواء الملبّدة بغيوم الخيبة وإدارة الظهر والكلام المعسول؛ إلا أن الجواب كان في موضعه لأن أياً من الحضور لا يعرف اليابانية إلا المبعوث الياباني، ولا أنا أعرفها؛ إلا أنّ هناك من لا يريد أن يستمع إلى تسمية الأمور بمسمياتها، ولا وضع النقاط على الحروف. بعد إطلاق "راتني" ذلك الجواب الملغم، وخلال بضع ثوان من الصمت مَرَّ في رأسي شريط من المواقف والأفعال لإدارة "أوباما" رئيسه وممثليها زادت منسوب المرارة والغيض في داخلي أضعاف.
ارتسمت في رأسي صورة "روبرت فورد" سفير أمريكا في دمشق ذاهباً إلى إحدى المحافظات السورية ليحضر مظاهرة ضخمة ضد منظومة الاستبداد الأسدية، وذهابه للتعزية ببعض شباب قضوا برصاص مخابرات الأسد. لم ندرك إلا لاحقاً أن لذلك "التعاطف" هدف غاية في الخبث يتمثل بوصم انتفاضة سورية الطاهرة بالدعم الأمريكي، ومن أجل تثبيت خطاب "النظام" وداعميه بأن هناك مؤامرة كونية على "نظام المقاومة والممانعة" تقودها أمريكا، والدليل على ذلك ما يفعله السفير الأمريكي "روبرت فورد" بزياراته ودعمه وتعاطفه.
تذكرت وقفة "سوزان رايس" ممثلة أمريكا في مجلس الأمن مع مندوب روسيا بعد جلسات عاصفة، كنا نتصوّر أن "ميزان الحق" سيُنصب بعدها؛ إلا أن اليد المشؤومة لمندوب بوتين معترضة على قرار دولي بمحاسبة نظام يرتكب جرائم حرب موثقة بحق شعبه، ارتفعت كالشبح الكريه. لم تكن الكاميرا تلتقط وقفة "رايس" فقط، بل "ابتسامة" لم تتمكن من إخفائها. هذا دفع البعض حينها للقول؛ بأنه "لو لم يستخدم الروس الفيتو، لحماية النظام؛ لكان الأمريكيون استخدموه".
استذكرت طلب الحق بإقامة منطقة حظر طيران" للحفاظ على أرواح السوريين من براميل منظومة الاستبداد، بعد منع وصول أي مضاد جوي لمن يدافعون عن أهلهم وأرواحهم من السوريين؛ تذكرت كيف تم تقنين أي أدوات للدفاع عن النفس عبر إيعازات أمريكية – لدول أثبتت أنها مجرد أدوات- حرصاً ربما على استمرار سعير المقتلة؛ تذكرت خط "أوباما" الأحمر الذي تحوّل إلى برتقالي وأخضر؛ تذكرت كل الجعجعة بلا طحين من أمريكا ومَن يدور في فلكها؛ تذكرت إشاحة الطرف الأمريكية والإسرائيلية عن دخول قَتَلة حزب الله وحرس الملالي الثوري للعبث بسورية وأهلها؛ وأكثر ما تذكرت، السماح لروسيا باستباحة سورية، وجَعْلها العنوان للتحكم بالمصير السوري.
كان بودي، ورداً على ذلك الجواب اللئيم، أن أقول كلغوي، أن هناك لغة غير محكية تُسمّى "لغة النِعال"، لغة لا تُستخدَم إلا مع المرائين والكذابين الذين يتشدقون بحقوق الإنسان والحفاظ على الحياة البشرية ومقاومة الإرهاب وعدم الإخلال بتوازن هذا الكوكب والتخفيف من توتراته كما يطرح خليفة "أوباما" الحالي؛ هي الوحيدة التي تليق بذلك المقام. تحدّثت لدقائق بالإنكليزية، ووضعت النقاط على الحروف، ورأيت وجوهاً ممتقعة صَحَت قليلاً على حقيقة ذاتها؛ إلا أن ذلك ربما دفعها إلى البحث عن طرق جديدة في الخبث والتزلف.
صحيح أن أمريكا حدّت من طموح روسيا في السيطرة المطلقة على سورية عبر عوامل وجودها العسكري في الشمال الشرقي السوري، والوجود التركي، والسماح بالتغلغل الإيراني، واستباحة إسرائيل للأجواء السورية؛ إلا أن إنقاذ ما يجب إنقاذه- وتحديداً الإنسان السوري وحقوقه وخلاصه، كانت آخر اهتماماتها. ها هي منظومة الأسد قد نفذت ما لا تحلم إسرائيل ولسنوات تعادل سنوات حماية منظومته لحدودها؛ ولن تقوم لسورية قائمة بسنين، ولن تشكل تهديدا لربيبة أمريكا. فماذا يريدون أيضا؟! لقد تعب الحجر السوري فضلاً عن البشر. أما من نهاية لهذه الكارثة؟!
لا بد للسوريين من أن يستعيدوا بلدهم وحيواتهم من مخالب تلك الوحوش والخلاص من منظومة الاستبداد. يبقى أن نقول من جديد، لا يحك جلد السوريين إلا ظفرهم. لقد تجرأوا على ما لم يكن في الحسبان، وما بدا مستحيلاً. لقد قاموا بثورة لا ولن تموت.