أن يكون السيد الرئيس فلاديمير إليتش بوتين جاسوساً، أو قاتلاً، أو عابثاً بانتخابات بلد آخر، نفهمها؛ ولكن أن يتحوّل إلى "مُرشد نفسي" يمتهن التزوير؛ وهو رئيس يمتلك كل هذه القوة القيصرية، وغير مضطر للوقوع بتناقضات مفضوحة؛ فهذا ما يصعب استيعابه، وما لنا طائل على فهمه.
عندما يصف "آخر ضيف" للسيد بوتين مَن يعارضه بالجراثيم والخونة المرتهنين؛ ويسقط عنهم سوريّتهم؛ وعندما يتمنّع عن الدخول في أي عملية سياسية لإنقاذ ما تبقى من سورية، إلا مغصوباً؛ فكيف تستقيم الأمور مع السيد بوتين أن يقول إن الأسد" يفعل الكثير لإقامة حوار مع المعارضين السياسيين"؟! من جانب آخر، إذا غاب شكل ومحتوى مسرحية "انتخابات بشار الأسد" عن أحد؛ من الطبيعي ألا تغيب عن بوتين؛ ومع ذلك تراه يشيد بتلك "الانتخابات". ولكن نعذره ها هنا؛ فهو ربما قاسَ ذلك على "انتخاباته". فعندما يتحدث بوتين عن "الثقة" التي يحوز عليها بشار الأسد من "شعبه"، لا بد أن في ذهنه "مجلس الدوما" الذي جعل من بوتين رئيساً للأبد.
مِن صفات رجل الاستخبارات أن يكون دقيقاً بالأرقام والإحصائيات؛ ولكن أن يقول السيد بوتين إن بشار الأسد يسيطر على 90% من سورية، وهو يُشحن مِن قِبل إحدى قوى الاحتلال بوتين نفسه للقاء في موسكو؛ فهذا ليس من الدقة بشيء.
وإذا كان الأمر كذلك- وبوتين لا يريد وجوداً عسكرياً غريباً "غير شرعي"؛ فكيف تستقيم معه الأمور بأن ضيفه يسيطر على 90% من الأرض السورية؟! وإذا كانا معاً يقاومان "الإرهاب"، فمن أين أتت مئات آلاف الوثائق التي تدين ضيفه وطُغمته بارتكاب جرائم حرب في سورية؟! وهل يعتقد السيد بوتين أن جرائم الحرب ليست إرهاباً؟!
وبالعودة إلى الـ 90 بالمائة، التي يتحدث عنها السيد بوتين، فهل كان الـ 13 مليون سوري الذين تشردوا في العشرة بالمائة التي لا تزال خارج سيطرة بشار الأسد في نزهة؟! وهل تستحق عشرة بالمائة عقد مؤتمرات روسية لإعادة اللاجئين؟! وهل يكترث مَن كان بالأمس بصدد تهجير ما تبقى من درعا بعودة لاجئين أو إعادة إعمار؛ أم أن في المسألة جَنًى اقتصادياً بعد الجَنَى العسكري تعويضاً عن الفشل السياسي الصارخ الوضوح؟! إذا كان السيد بوتين يحاول –كجزء من المعالجة أو الإرشاد النفسي- إسباغ صفات حميدة تعزيرية لشخصية ضيفه بغية سحبه باتجاه "تغيير سلوكه" تلبية للمطلب الأمريكي؛ فهو واهم؛ فالضيف والمضيف يكذبان ويعرفان أنهما يكذبان، بحكم أن المعالِج والمعالَج منفصمان عن الواقع.
بحكم الانفصام -الذي يصيب المعالِج أيضاً-؛ قد يتمكن السيد بوتين من جعل ضيفه يطرّي كلامه، ويتحدث عن حوار سياسي، بعد أن خذله في درعا عندما لبس ثوب " الوسيط"؛ ولكن كيف له أن يرمم الأمور مع ملالي طهران الذين أصبحوا موضوع الاستهداف في الجنوب؟! فها هو بوتين بوضوح ينضمّ إلى جوقة إبعاد إيران عن الجنوب السوري. وماذا سيقول لإسرائيل إن ركب الإيرانيون رأسهم؟ وأي تقرير سيقدّمه للأمريكيين الذين لا بد تَعهَّد لهم بتنفيذ ما يريدون؟ وهل يكفيه الحديث عن شرعية أو لا شرعية وجود قوات أجنبية على الأرض السورية؟! ها هو حتى ضيفه، في مقدمته العصماء لاجتماعهما حول العقوبات الاقتصادية، يتحدث عن اللاإنسانية واللاشرعية؛ وكأن القتل والاعتقال والتشريد لشعب سورية- حتى استغلال العقوبات ذاتها لإذلال من بقي من السوريين في الداخل- أعمال إنسانية وشرعية!
نستطيع أن نفهم أن تكثيف القصف الروسي للشمال الغربي السوري، ومغازلة روسيا للـ "بي كي كي"؛ جزءٌ من "العشرة بالمئة المتبقية"، وجزءٌ من خذلان روسيا للنظام الأسدي وإيران في درعا، ومؤشر جديد على خط روسي جديد "الوسيط"؛ ولكن في الأمرين الأخيرين، كيف ستتدبر روسيا وضع علاقتها مع تركيا، الحليف شِبه الإستراتيجي، على مختلف الصعد؟! أليست كثافة التصريحات الروسية مؤخراً حول الوجود "الشرعي أو غير الشرعي" لقوات أجنبية على الأرض السورية في هذا السياق؟! أليست تركيا هي أكثر الجهات المقصودة بتصريحات كهذه، لاستشعار بوتين ارتفاعاً مهماً بمنسوب التنسيق التركي- الأمريكي؟! هل السيد بوتين جاهز ليحمل ملايين السوريين الذين تحملهم تركيا في بلده، أم أنه يفكر ببناء معتقلات لهؤلاء كجزء من إعادة الإعمار التي يتحدث عنها وضيفه؟!
عندما تمتزج "البهلوانية" في السياسة، بالاستعدادية للإجرام، بدور "المرشد النفسي"؛ وعندما يلبس الدب ثوب رقص، أو جلد حمل وديع، وعندما يمتلك عقل العصابة المافياوية التي لا يعنيها إلا تكبير إمبراطوريتها الذاتية النابعة من "أنا" متضخمة تسربلها عُقَد النقص؛ على المرء أن يتوقّع كل شيء، وأن يعاني من كل الانسدادات، ويتحمل المآسي وخراب الأوطان. مَن يحتاج شفاءً أو تغيير سلوك، لا يستطيع تغيير سلوك مَن هو أشد منه مرضاً. سبب داء وابتلاء سورية واضح؛ إنه الابتلاء بمنظومة الاستبداد الأسدية، التي لا بد من التخلص منها، حتى تعيش سورية.
إقرا ايضاً: https://nedaa-post.com/article/Art46811SYHc3ha