كل التقدير لكل من لا يزال يقول بعدالة قضية السوريين وضرورة إنصافهم من خلال حل سياسي يحفظ حقوقهم ويرفع الاستبداد عن كاهلهم بموجب القرارات الدولية ذات الصلة.
وفي هذا السياق يندرج بعض ما جاء على قلم "كبير مستشاري الإدارة الروسية"، السيد "رامي الشاعر" في آخِر مقال له، نشره موقع "روسيا اليوم- RT" بالعربية.
ترد في المقال عبارة "الانتقال السياسي" في سورية؛ وهذا مَدْعَاة للتفاؤل بحكم أن مَن يطلقه ليس مجرد صحافي أو كاتب، بل كبير مستشاري الإدارة الروسية للشؤون العربية، والسورية تحديداً؛ وما كنّا سابقاً نسمع عبارة كهذه على ألسِنَة الروس.
يرافق ذلك عبارات حماسية مليئة بالأمل تجاه اجتماع اللجنة الدستورية كبوابة لإيجاد حل سياسي في سورية.
يرفع من قيمة هذه الطروحات حديث السيد الشاعر حول التوصل لوقف لإطلاق النار في سورية. هذا يدفعنا إلى التطلع بأن يكون للسيد الشاعر قدر من التأثير، بحيث تندفع السياسة الروسية نحو إيجاد حل سياسي حقيقي في سورية. ولكن للأسف هناك بعض الإشارات في ثَنَايَا المقال وردت تضميناً، وأحياناً دون استتار، تَشِي بما لا يُريح أو يَدعم التفاؤل.
بداية، إذا كان الحماس تجاه "اللجنة الدستورية" يستند إلى كونها منتجاً تهتم به روسيا، وإن كانت جزءاً من "التكتيك" –حسب قول "نظام الأسد"- الذي بموجبه يتم اكتساب الوقت، وإعطاء الانطباع بأن "النظام" يشارك بالعملية السياسية، الأمر الذي يساهم بإعادة تدويره؛ فهذا أبعد ما يكون عن الاهتمام بالسوريين، وإعطائهم أولوية بأي حل؛ كما يؤكد الشاعر. وإذا كان السيد الشاعر واثقاً من وقف إطلاق النار -الذي يركّز عليه في مقاله- فما الذي تفعله الطائرات الروسية يومياً في الشمال الغربي السوري؟ لا ندري إذا كان لديه عِلْم بأن ضحايا قصف تلك الطائرات تجاوز المئة مدني خلال الأشهر الثلاثة الماضية، بينهم ستون طفلاً.
يسخر السيد الشاعر ممن يتناولون مشروع إيران الخبيث في المنطقة، أو يتهمون إيران "بالتشييع والتغيير الديموغرافي"، ويعتبر ذلك "إشاعات". علَّ السيد الشاعر يصرف بعض الوقت للدخول لدراسات تُوثِّق ما تفعله إيران على هذا الصعيد في سورية غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً.
إن لم يكن بناء الحَوْزات، وتحويل بعض الجوامع إلى حَوْزات، وإن لم تكن الاحتفالات بـ "عاشوراء" من قِبل شبان سوريين بأعداد كبيرة، وإن لم يكن استغلال حاجة الناس الاقتصادية والإغراءات بالمال والمخدرات عَبثاً وتشييعاً وتغييراً ديمغرافياً، وحتى بشرياً، فماذا يمكن أن نسميه؟! وهل ما تراه العين ويعيشه الإنسان إشاعة؟! ملفتة وطيّبة في مقاله عبارة "أبناء العقيدة الواحدة"؛ ولكن ليته يطلب من إيران التوقفَ عن تنفيذ صرخة: "يا لَثارات الحسين"!.
يعرّج المستشار على ملف إيران النووي والذي ذهبت سورية -(مجال اهتمامه) بسبب ذلك الملف- فرق عملة بين إدارة "أوباما" وإيران. ويركز مِن جانب آخر على الدور الروسي كوسيط في هذا الملف؛ وكأن روسيا لا تريد للتوتر "الإيراني- الأمريكي" أن يستمر. وهذا شيء جميل يقلّص التوترات التي يدفع السوريون ثمنها، إلا أن الشاعر يغفل أن آخِر ما يتطلَّع إليه الفريقان هو توسُّط روسي، كمستفيد من هذا التوتر المفترَض، فالأمور بينهما ربما تتجاوز ما يصبو إليه السيد الشاعر. أما بخصوص انفراج في العلاقات "الإيرانية- السعودية"؛ فإننا نشدّ على رأي الأستاذ الشاعر؛ لأن ذلك في النهاية لصالح السوريين؛ إلا أن هذا الكلام لا ترجمة له في الواقع؛ حتى لو تدخلت "النوايا الحسنة الروسية". من جانب آخر، العلاقة بين دول الخليج وأمريكا تتجاوز ما قد يفكر به الشاعر؛ ولن تكون روسيا إلا أقل من ثانوية، حتى لو اشترت منها بعض دول الخليج الأسلحة، وحتى لو جاء لافروف إلى قطر، وحاول تشكيل بعض التحالفات. يصعب الدخول بين "البصلة" و"قشرتها"؛ فألعاب كهذه أضحت من منسيّات أمريكا.
عندما يتحدث السيد الشاعر عن الصدارة التي تحتلها مصلحة الشعب على أجندة "أستانا"؛ فهذا بالتأكيد لا يعني استمرار السوخوي الروسية بقصف مناطق في سورية، أو الاستمرار باستعراض وتجريب فعّالية الأسلحة الروسية على دماء السوريين وأرواحهم؛ ولا يقصد بالتأكيد استمرار الملالي بمشروعهم الخبيث وزج ميليشيات القتل والمخدرات في نسيج الحياة السورية، ولا التشبيك مع المعارضة التركية وتسليطها على النازحين السوريين، ولا باتهام تركيا بأنها سهّلت "الدَّعْشَنة" دون استئصال الإرهاب في الشمال الغربي السوري- كما يتحفنا السيد لافروف على الدوام.
وفي هذا الصدد، لماذا لا نرى استهدافاً روسياً أو إيرانياً مباشراً لتلك المجموعة التي يتحدثون عنها؟! هل لأنها مرتبطة بـ"النظام" وإيران وتخدم أهدافهما، وأهداف روسيا ربما؟!
كان لافتاً في مقال كبير المستشارين تطرُّقه لجهود العاهل الأردني، والذي يرى فيه فتحاً ليس بين الأردن ونظام الأسد، بل -كما يقول- بين دمشق والعالم العربي. غريبة هذه الرؤية! أهكذا
بالنسبة للسيد الشاعر؛ وكأن شيئاً لم يكن! هل زالت أسباب القطيعة مع منظومة الاستبداد، ليتحمَّس السيد الشاعر بهذا الشكل؟ ربما هو مُحِقّ في ذلك؛ فروسيا لا ترى أن منظومة الأسد وحماتها (والروس أكثر من غيرهم) قد دمروا أكثر من نصف سورية، وقضى في معتقلات النظام عشرات الآلاف؛ وما زال يقبع في "مقابر الأحياء" تلك أكثر منهم؛ ولا ترى تشرد أكثر من نصف أهل سورية؛ ولا تفكر إلا بالاستفادة من إعادة الإعمار والحديث عن عودتهم، التي لن تتحقق إلا بزوال الأسباب التي دعت لذلك.
أخيراً، وبالعودة للجنة الدستورية التي يتحمس لها السيد الشاعر؛ فهو يرى ضرورة عدم التدخل الخارجي بعملها. والمقصود ها هنا بالتأكيد ليس التدخل الروسي، بل الأمريكي والتركي والأوروبي. بداية لا بد من سؤال السيد الشاعر فيما إذا كان إجبار أحد الفرقاء على المشاركة في عمل اللجنة تدخُّلاً أم لا. حقيقةً الجوابُ معروفٌ؛ فلولا الضغط الروسي وإجبار النظام على المشاركة، لَمَا كانت الجولة ممكنة. وهذا تدخُّل جيد. ولكن من جانب آخر مَن لديه هذه القوة في التدخل، ألا يستطيع أن يجعل وفد "النظام" يتصرف بمسؤولية ودون "يباسة رأس" كما يسميها الشاعر، ويخرج السوريون بدستور يعيد سورية إلى سكة الحياة؟! وهل يكون التدخل فقط لتفصيل الأمور بالشكل الذي يتوافق مع مصلحة روسيا في إعادة تدوير "النظام"؟! وإذا كان هذا هو الحال، أليس ذلك استمراراً بالسياسات البهلوانية، التي لن تحقق تنظيرات الشاعر المتفائلة.
على أية حال، الماءُ تُكذِّب، أو تُصدِّق الغطاسَ. سنبقى متفائلين معه؛ ولننتظر ونعتبر.