بحَسَب عِلْم الفيزياء فالأجسام إنما تتحرك في رحلة للبحث عن الاستقرار أو الاتزان (التوازن)، وذهب هذا العِلْم ليعدد أشكالاً متعددة لهذا التوازن، فمنها المستقر ومنها التوازن القَلِق. أما في تفسيره لحالة التوازن القَلِق فيشير العلم صراحة إلى أن ذلك النوع ما كان ليحدث وَفْق طبيعته الأولى، بل صار كذلك بعد تأثُّره بفعل قوة خارجية!
تتشابه العلوم في حالاتها الأولى، وكذلك النظم السياسية والتشكيلات الاجتماعية، إذ تتداخل فيها مجموعة كبيرة من العوامل والقيم والنظريات. والمجتمعات البشرية لا تختلف من حيث الجوهر عن العلوم البحتة، وكلها تنشد الاتزان والاستقرار بصيغة أو أخرى وعلى الأصعدة كلّها اقتصادياً ومادياً وسياسياً وحتى نفسياً، فالموسيقى التي تخلو من أي ترتيب أو نمط معين لنغماتها غالباً ما تجنح نحو الضجيج وتصبح مجرد أصوات تثير القلق والإزعاج.
لم يخطر ببال كثيرين قبل أسابيع من الآن أن تستعيد طالبان مقاليد الحكم في أفغانستان بعد عشرين عاماً من التدخل الخارجي الأميركي المباشر، ولم تعرف أفغانستان الاستقرار منذ أكثر من 180 عاماً تقريباً حين عمد البريطانيون إلى غزوها من الهند بهدف الإطاحة بحاكم أفغانستان الأمير دوست محمد خان واستبداله بشجاع شاه، باعتبار الأخير أكثر ولاء لبريطانيا. نجح البريطانيون في البداية وتمكنوا من تثبيت شجاع شاه حاكماً في جلال آباد وأجبروا دوست محمد خان على الفرار، لكن الأخير سرعان ما عاد في 1841 لقيادة انتفاضة ضد الغُزاة ورجالاتهم وبعد فترة تمكن رجال القبائل الأفغان في 1842 من دحر القوة الأنغلو-هندية بعَدِيدها الذي بلغ آنذاك 4500 رجل وآلافاً من الأتباع، في واحدةٍ من أفدح الهزائم في التاريخ العسكري البريطاني. ويروي السير جون وليام كايي (1814-1876) الذي كان ضابطاً سابقاً في جيش "شركة الهند الشرقية" أن التدخل البريطاني انتهى إلى كارثةٍ على بريطانيا، إذ يقول: "لم يسجِّل التاريخ فشلاً ساحقاً وشاملاً مثل الذي حدث مع التدخل الخارجي البريطاني.
تكرر الأمر نفسه تقريباً أكثر من مرة ولعل التدخل الأكثر حضوراً في الذاكرة كان الغزو السوفييتي لأفغانستان 1979 ، حين غزا الجيش الأحمر السوفييتي هذا البلد لتثبيت الحكومة الموالية للسوفييت، وبعد حوالي عشر سنوات من الحرب انسحب الجيش السوفييتي بعد سقوط 5.1 مليون قتيل من الأفغان وحوالي 15 ألفاً من الجانب السوفييتي واعترف قادة الاتحاد السوفييتي بعد عشر سوات بعبثية التدخل حتى أن آخِر رئيس سوفييتي ميخائيل غورباتشوف صرح بأن ضباط الجيش السوفييتي كانوا عاجزين عن إقناع الجنود بسبب وجودهم في أفغانستان.
لم يدُم الوقت طويلاً حتى جربت القوة العظمى الأخرى (أميركا) الخطأ البريطاني والسوفييتي نفسه وقررت غزو أفغانستان 2001 تحت ذريعة محاربة الإرهاب وبحسب تقارير دولية، بدأ غزو القوات الأميركية لأفغانستان بـ2500 جندي عقب أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وتزايدت أعداد الجنود حتى وصلت عام 2010 إلى مئة ألف، وبعد مقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، تم خفض العدد تدريجيّاً، حتى وصل إلى 8400 فرد، ومرة أخرى تسبب الغزو الأميركي بعد عشرين عاماً من الوجود بالقوة بمقتل 150 ألفاً من الأفغان و 2400 جندي أميركي بحسب تقارير لمراكز متخصصة.
ولأن التدخلات الخارجية صارت من السهولة بمكان حتى بات من الصعب حصر أعدادها وتأثيراتها، وصار من غير الممكن في كثير من الأحيان التخمين بمآلات تطوُّر مآلاتها حتى في قضايا كبرى،إذ لم تعد محكومة بسلسلة من التحولات المنطقية ذات النتائج المعروفة تماماً بما يشبه صناعة رغيف الخبز.
وبالفعل فشلت معظم التحليلات السياسية وحتى مراكز الدراسات الكبرى التي تعتمد دراسة المعطيات وتأخذ بعين الاعتبار تأثير مجموع القوى الفاعلة في المشهد الأفغاني بعد مقاربتها بالتجارب المماثلة عَبْر التاريخ، حتى أن النتائج في السنوات الأخيرة غالباً ما جاءت مخالفة للتحليلات أو لنقل مفاجئة على نحو بعيد في تقديراتها.
ولا أدري كَمْ من الزمن يمكن للنظام الاجتماعي والسياسي والقيمي أن يصمد أمام هذا الاختلال المؤثر في حالات الاستقرار، لكن الأحداث الأخيرة غالباً ما تشير إلى أن العالم يتجه إلى الهاوية بشكل أسرع من المتوقع على الرغم من تقدُّم العلوم وعلى الرغم من الرفاهية التي فرضها تطوُّر التكنولوجيا الحديثة في كثير من التفاصيل اليومية، ويمكنني أن أستحضر وبسهولة عشرات الحالات التي حدثت في السنوات الأخيرة للتأثير الكارثي بعد التدخلات الخارجية ودورها في خلخلة التوازن الاجتماعي والبيئي أيضاً الذي حاول الإنسان المحافظة عليه قدر الإمكان طيلة آلاف السنين، ومع عدم الاكتراث الحاصل تجنح البشرية بشكل أسرع من أي لحظة في تاريخها من الاقتراب إلى سلسلة من الكوارث التي قد لا يفلح في معالجة مخاطرها تقدُّم التكنولوجيا ولا سطوة الإنسان غير المحدودة في التأثير على التوازنات.
ولعل انتشار وباء كورونا في العامين الأخيرين يُعَدّ أحد أبرز الأمثلة في السنوات الأخيرة والتي لم تستطع التكنولوجيا وعلوم الطب الحديث ومختبراته السيطرة الأكيدة على تحورات هذا الفيروس المتناهي في صغر حجمه واللامحدود في سطوة تأثيراته على البشر، وفي مكان آخر لا يمكننا أن نستوعب تأثير ارتفاع درجات الحرارة على هذا الكوكب أو أسباب حرائق الغابات في أكثر من مكان في العالم؛ إذ باتت خارج السيطرة في كثير من الحالات على الرغم من أنها مجرد إشارات أولية لكنها قابلة للتفاعل بشكل يُخرجها عن السيطرة في أية لحظة.
لم يَعُدِ العالم أكثر أماناً مع تغليب المصلحة الخاصة لشريحة محدودة وشَرِهة في تكديس الثروات على المصلحة العامة للبشرية ككل، وتبقى أولوية المحافظة على التوازنات الاجتماعية والطبيعية هي الحالة الأكثر استدامة والأكثر ملاءمة للمجتمعات وعلاقاتها ببعض وعلاقتها مع الطبيعة بآنٍ واحد. فالكيانات الاجتماعية تشبه إلى حد كبير تطورات الكائن البيولوجي الذي يحتاج إلى مروره بسلسلة من المراحل الضرورية لاكتمال دوره ووظيفته، ومن غير ذلك يصبح من المعقول جداً أن يزهر أيلول وتشتّي بآب ويصير درب الطلعة نزولاً، على رأي المطرب وائل كفوري. والآن هل تستوعب الدول التي تستثمر فائض القوة لديها دروس التاريخ وتنتبه إلى ردود الفعل الكارثية على تدخُّلاتها في مصائر الشعوب المستضعفة في أكثر من مكان؟ وبغير هذا سنبقى في حالة من التوازن القَلِق حتى تحين لحظة يصبح فيها الحفاظ على الاتزان مستحيلاً.
Author
-
إعلامي وباحث والمدير العام الأسبق للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في سورية