لا بد من التفريق موضوعياً بين الإسلام والمسلمين، فالإسلام بوصفه ديناً ونظريةً ورؤيةً للكون وللحياة والموت وما بعد الموت، ومنهجاً للسلوك الإنساني، وتنظيماً لمجتمع ضمن مبادئ عامة وقوانين تفصيلية، وإجابة عن كل الأسئلة بما فيها تلك التي تتعلق بالغيب، فأما المسلمون فهم الذين اعتنقوا هذا الدين ومن الطبيعي أن تتفاوت درجات إيمانهم، وأن تختلف تفسيراتهم، وهذا التفريق بين النظرية والتطبيق، يجعل النص في معزل عن فهم القارئ له، لكنه نصّ مفتوح لمستويات الفهم، مما يجعل العقل الإنساني مسؤولاً عن تطوير الفهم وتعميقه، وعن تكييف التطبيق حَسَب ما أقره النص ذاته لتحقيق ما سمّاه المقاصد. لكن حديثنا عن الإسلام لا يعني فصلاً له عن حيويته المتحقِّقة لدى أتباعه، وهو ليس نظرية حديثة العهد تفرض علينا أن ننتظر نضجها واستواءها كي نحكم عليها، كما أن أبواباً ضخمة من نصوصها مغلقة وغير قابلة للتطوير، وأقصد الثوابت الأساسية في أركان الدين، ومن المشهور قول فقهاء الإسلام (لا اجتهاد في مَوْرِد النص) وتفسير هذا القول مُضطرِب بين مَن يفهم النص لغوياً وحَرْفيّاً، وبين مَن يفهمه بلاغياً وبالمضمون والقصد، وندرك أن هناك نصوصاً غير قابلة للاجتهاد أو التعديل ولاسيما ما يتعلق بالعبادات، وهذا غير مختلَف عليه بين المسلمين، فلا أحد يقترح تغيير مواعيد الصلاة أو عدد ركعاتها، أو يقترح اختصاراً لشهر الصوم، فتلك ثوابت قَطْعية، لكن الأمر يختلف حول فهم المسلمين لقضايا إشكالية، بعضهم يراها من الثوابت، وآخرون يرونها قابلة للنقاش، ومن أهمها قضية الحكم في الإسلام. وأدرك أن هذا الموضوع شَبِعَ بحثاً، ولاسيما بعد انهيار الدولة العثمانية التي رآها مُسلِمُو عصرها عامة أنها دولة خلافة تستمدّ شرعيتها من الإسلام، ومع سقوطها ظهر تياران، أحدهما يدعو إلى الجامعة الإسلامية، وثانيهما يدعو إلى الجامعة القومية، ومع ظهور تنظيمات قبل انهيار الدولة العثمانية تدعو إلى (تركيا الفتاة) ظهرت بالمقابل تنظيمات تدعو عند العرب إلى (العربية الفتاة) وكانت دعوة سرية نشأت في باريس عام 1909، وبدأ الصراع بين التيارين الإسلامي والقومي، وصارَا نقيضيْنِ، حيث يدعو الأول إلى استعادة الخلافة الإسلامية مستلهِماً التاريخ والنص المنجز، بينما يدعو الثاني إلى بناء دول قومية مستلهِماً التجارب الغربية التي اعتمدت على بِنْية القوميات. وقد انتصر تيار القومية في تركيا، كما انتصر في بعض البلاد العربية، وبقي الصراع قائماً ومستمراً، رغم محاولات طَمُوحة للمصالحة بين التياريْنِ، حيث ظهر المؤتمر القومي الإسلامي في دورات متوالية ليحقق مُصالَحة تاريخية بين التيارين ويُنهي معارك بينهما كانت أشدَّ من المعارك التي واجهت الاحتلال الأجنبي، لكن القلوب لم تكن صافية، وقد اقتصرت التصريحات الإيجابية على الدعاية الإعلامية، حيث لم يكن سهلاً على التيار القومي أن يعلن عداءً صريحاً للإسلام، منذ عهد عبد الناصر، وكان حزب البعث الذي حمل لواء القومية معلناً من عام 1947 قد خشي خطر إعلان موقف رافض للإسلام، بل لقد اضطر أبرز مؤسِّسيه –ميشيل عفلق– أن يعلن الإسلام، وقدم البعث شعاراً غامضاً ملتبِساً على مدى سنوات ظهوره وهو (أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة) ولم يقدم البعث جواباً صريحاً عن مَاهِيّة هذه الرسالة، وقد وجَّهت هذا السؤال عن مَاهِيّة الرسالة الخالدة في مطلع السبعينيات في حوار عامّ قام به فرع الحزب في إدلب، ورجوْتُ أن تجيب عنه القيادة، ولم أحظَ بجواب، وكان من المُفارَقات أن يُوجَّه هذا السؤال لي بعد سنين من طالب جامعي في إحدى ندوات برنامجي (دعوة إلى الحوار) الذي قدمته أواسط التسعينيات في التلفزيون السوري، وكان السؤال على ملأ من الحضور والكاميرات (ما هي الرسالة الخالدة التي يعنيها شعار حزب البعث؟) وقد أحرجني السؤال لكوني لست بعثيّاً، لكنني قلت (لا أعرف رسالةً لها سِمَة الخلود غيرَ رسالة الإسلام) وللحقيقة لم يعترض أحد على ما قلتُ، ويبدو أن الرغبة الخفيّة في تجاوُز أحداث الثمانينيات أتاحت في التسعينيات فرصة لتجاهل الإجابة، ولاسيما أن التيارات (المتدينة) التي تلتفّ حول علماء دمشق البارزين مثل "البوطي" و"كفتارو" كانت تلتفّ كذلك حول النظام.
وكما كان شعار البعث غائماً وغامضاً في تفسير الرسالة الخالدة، كذلك كان شِعار العَلْمانية غائماً، واضطربت تفسيراته عند جهابذة العرب، بين نسبة العَلمانية (بفتح العين) إلى العَالم، وبين نسبتها (بكسر العين) إلى العِلم (وقد فصَّل هذه الإشكالية صديقنا المفكر الدكتور "أحمد برقاوي" في كتابه المُهِمّ –العرب والعلمانية– وما يزال الحوار حول العلمانية قائماً، حيث يرى كثيرون أن العلمانية تقوم على الإلحاد ورَفْض الدين ونَبْذه خارج الحياة العامة ليكون صلة فردية خاصة بين العبد وربه، وكثير من العلمانيين يرون أن العلمانية هي مجردة فصل بين الدين والدولة، وإبعاد للدين عن عالم الحكم والسياسة، وأنه لا تناقض بين الإيمان بالله واعتناق دِين من الأديان وبين العلمانية فذاك يقع في ساحة الحرية التي تدعو لها العلمانية ضِمن حقوق الإنسان. وعلينا مجدَّداً أن نفصل بين العلمانية بوصفها نظريةً وفكراً ورؤيةً وبين العلمانيين، ولسوء الحظ نجد غالبية بينهم تهاجم الأديان وتسخر منها وتَسْتَعدِي المتديِّنين مما يرسخ فهماً خاصاً للعلمانية مختلفاً عن جوهرها. وقبل أن أخوض في مضمون مقالي عن امتحان الإسلام (فما زلتُ في المقدِّمات) لا بدَّ لي من أشير إلى حقيقة فشل التيارين الكبيرين اللذين شغلا الأمة العربية والإسلامية مائةَ عام (عَبْر امتداد تاريخيّ ومستقبليّ) وكان الصراع المستمر بين التيار الإسلامي والتيار القومي دامياً في كثير من حِقَب المرحلة، وقد أُتيح للتيار القومي، الذي اصطبغ بلون علماني ووشاح ديني مُهَفهِف، أن يحكم عدداً من البلدان العربية، وعلى مبدأ (الأمور بخواتيمها) فإن خواتيم هذه التجربة التي طالت عقوداً كانت كارثية ومفجعة، وجاءت ثورات الربيع العربي -الذي سُرْعان ما تحوَّل إلى شتاء مُوحِل- صرخات رفض للتجارب المُرّة، وكذلك سقطت تجارب التيار الإسلامي، ولم تنجح تجربة الإخوان في مصر، وكذلك لم تنجح مشاركة التيار الإسلامي في الحكم في تونس، واختُطِفت ثورة السوريين من قِبل تنظيمات ظَلامية تدّعي الإسلام وأهمها داعش، وكانت تحارب الحالة الوطنية الشاملة في الثورة السورية، وما تزال الصراعات قائمة ومستمرة. وتبدو المفارَقة الكبرى، أن الدولة الدينية الوحيدة التي لقيت دعماً عالمياً هي جمهورية إيران الإسلامية التي يقودها فقيه ينوب عن الإمام الغائب، وهو في المعتقَد الديني أعلى شأناً من الخليفة، وقد سمح العالم لإيران أن تتمدد في العراق وسورية ولبنان واليمن، رغم كل ما تعلنه عن صراعها مع الشيطان الأكبر، وللحديث صلة.