جاء الإسلام دعوةً عامةً للتفكر والتأمل الكوني، وقدم فيضاً من الأجوبة على أسئلة طالما شغلت الإنسان منذ أن رأى الكون العظيم، وبات يسأل عن أسراره، وبما أن الإسلام رسالة من الله إلى البشر، عَبْر نبيه العظيم، فإن كثيراً من إجاباته عن الأسئلة الكونية، جاءت إخبارية قطعية غير محتاجة لدليل مادي، بل إن بعض الأسئلة لم تجد جواباً، وقد اخْتَصَّ الله –سبحانه- ذاته العلية بعلمها، وطلب من البشر ألا يطرحوا السؤال حولها، ومثال ذلك قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).
وثَمَّة تحذير إلهي من طَرْح أسئلة قد تكون الإجابة عنها صادمة أو مسيئة، وقد فهم بعض المفسرين القُدَامى أن الأسئلة التي نهى عنها الله، هي تلك التي تتعلق بأسرارهم الشخصية، فقد سأل أحد الصحابة رسول الله (أين أبي؟) يقصد في الجنة أم في النار؟ وسأله رجل آخر (من أبي؟) فقال له رسول الله (أبوك حذافة) وربما أراد آخر أن يهزأ وقد ضلت عنه ناقته (أين ناقتي؟) وقد نزلت الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) وفي تمام هذه الآية استشراف لما سيطرح الناس من أسئلة بعد أن ينتهي نزول القرآن الكريم، ويقول الله سبحانه: (وإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ) ويروى عن رسول الله قوله: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم غيرَ نسيان فلا تسألوا عنها).
وأخطر الأسئلة تلك التي تتعلق بالذات الإلهية، وبأسرار الخلق والحياة والموت، وبما يتعلق بما يسميه الله (الغيب) وهو في اللغة (ما غاب عن الحواسِّ وحُجب عنها، وبذلك يكون النقيض من الغيب لفظ الشهادة) والغيب ما اخْتَصَّ الله به ذاته، ولم يتمكن العقل البشري من معرفته: (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) والإيمان بهذا الغيب موضعه القلب وليس العقل بالضرورة، وهو من أُسُس العقيدة الإسلامية، وهو إيمان تصديق لا يطلب دليلاً ولا يدَّعي معرفة، قال تعالى: (وَعِندَهُ مَفاتِحُ الغَيبِ لا يَعلَمُها إِلّا هُوَ)، وبتواضع جمّ يقول رسول الله: (لَو كُنتُ أَعلَمُ الغَيبَ لَاستَكثَرْتُ مِنَ الخَيرِ وَما مَسَّنِيَ السّوءُ إِن أَنا إِلّا نَذيرٌ وَبَشيرٌ لِقَومٍ يُؤمِنون).
ولا يعني الإيمان بالغيب نهياً عن التفكير، فبوسع المسلم أن يُقلِّب ما يشاء من الأجوبة التي يطرحها عقله، لكن الإسلام يرى أن هذه الإجابات البشرية لن تصل إلى شيء يخالف ما جاء به القرآن الكريم من حق في الأجوبة عن الغيب، ويَعِدُ اللهُ عبادَهُ بأنهم سيرون هذا الحق: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).
وقد جعل الله الإيمان بالغيب ركناً من أركان الإسلام: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).
وقد حرص المؤمنون على ألا يكثروا من السؤال، بينما كان شعار العقل الفلسفي هو السؤال، وهنا يبدأ الصِّدام الأول بين الإيمان بوصفه إذعاناً، وبين الفلسفة بوصفها سؤالاً بلا حدود، وكانت أسئلة الفلسفة الكونية أول التحديات الفكرية التي واجهت الإسلام، ولكن استجابته واتِّساعه لهذه الأسئلة كانت رحبة وقابلة للحوار الذي دخل في فضاء القداسة، مما جعل حُرّاسها يغضبون أحياناً، وقد يحكمون بالكفر على مَن تجرَّؤُوا على اقتحامها، لكن رداء الإسلام بقي فضفاضاً يتسع للتناقض والتضادّ الفكري، ولا يُخرِج مِن دائرته إلا مَن يرفضونها رفضاً صريحاً، وما يزال هذا الحوار الذي يتحول غالباً إلى صراع فكري، قائماً ومستمراً .
كانت الفلسفة اليونانية والثقافة الهلنستية سائدة ورائجة، وقد ظهر فيها فلاسفةٌ مؤسِّسون كِبار، وكان من الطبيعي أن يطَّلِع المفكرون المسلمون الأوائل على هذه الفلسفة وأن يُترجِموا كُتبها إلى العربية .وكذلك كانت بين أيدي المسلمين فلسفات الهند والفرس والصين .
كانت الفلسفة اليونانية القديمة قبل ميلاد السيد المسيح غارقة في الميتافيزيك (ما وراء الطبيعة) ومع ظهور المسيحية نشطت فلسفات اللاهوت والناسوت، ولم يقف المفكرون العرب مُذعِنين بإيمانهم الديني أمام "الميتافيزيك"، فقد سارعوا إلى ترجمة كتاب أرسطو، وكان من أوائل الفلاسفة العرب (أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي 185 – 256 هـ) (وهو المؤسس في مرحلة مبكرة للفلسفة العربية الإسلامية التي بلغت ذروتها عند ابن رشد الحفيد (520 – 595 هـ) وهو الذي فك شفرات الإشارات عند أرسطو.
.
لقد انفتح الفكر الإسلامي بقوة على الثقافة اليونانية، ويُعتبر خالد بن يزيد بن معاوية أَبْرَزَ من دعموا حركة الترجمة منذ القرن الهجري الأول، وقد اهتم بالعلوم، ثم اتسعت الترجمة لتشمل الفلسفات المتعددة، وكبر الاهتمام بالميتافيزيك اليوناني الأفلاطوني والأرسطوي منذ أواخر القرن الهجري الثاني، وبدأ المفكرون العرب المسلمون يسعون إلى التوفيق بين الدين والفلسفة التي سموها (الحكمة) حسب معنى لفظها اليوناني، وبعضهم تجاوز الدين وإجاباته، واعتمد ما قاله عقله، وقد عانى كثير من المفكرين والمتفلسفين من رفض المؤسسة الدينية لأفكارهم، وتَبادَل المتحاورون الاتهامات بالتهافت.
وقد ظهر عِلْم الكلام مع المعتزلة وتأسَّست في الوقت ذاته علوم التوحيد والفقه، وظهرت مدارس فلسفية عديدة من أبرزها مدرسة الكندي المؤسِّس، الذي انصرف إلى التوفيق بين الميتافيزيقية اليونانية الأرسطوية وبين الفكر الإسلامي، وقد اضطر أن يأخذ أدلة من القرآن الكريم، خلافاً لما يقتضيه منهج الفلسفة الأرسطوي، معتبراً بأن الله هو الثابت، والمتغيرات نشأت بإرادته.
ولقد أبرزت الفلسفة الإسلامية عامة أسماء لامعة صار لها دَوِيّ عالمي فضلاً عن ابن رشد الذي بلغ الذروة العليا، ونذكر منهم مثالاً وليس حصراً علماء وفلاسفة "بيت الحكمة" وعلى رأسهم ثابت بن قرة، والمدرسة البغدادية الأرسطوية، والمشائين، ومن الأعلام البارزين الفارابي وابن سينا والرازي وابن ماجة وآخرون.
وكان ثابت بن قرّة قد تابع عمل الكندي، لكنه أيَّد مذهب خلود العالم عوضاً عن نشوئه، وأكد على وحدانية الله صاحب المشيئة (ولا بد من أن نشير إلى أن ثابت بن قرة كان صابئياً ثم اعتنق الإسلام) وكذلك نذكر مدرسة (إخوان الصفا) التي تأثرت بالفكر الهندي والفارسي والقرمطي، وما فيه من فهم خاص للباطن، عَبْر تأثُّر جَلِيّ بالزرادشتية والماناوية، وقد قدمت هذه المدرسة موسوعة فلسفية هامة.
وبقي الهاجس الفلسفي الإسلامي هو التوفيق بين النص الإلهي وبين العقل الفلسفي، وقد كان الفارابي مشغولاً بالتوفيق حتى بين أفلاطون وأرسطو، وكتب في ذلك (الجمع بين الحكيمين) كما كان منشغلاً بتوحيد الأمة الإسلامية التي تفرَّقت إلى مذاهب وطوائف متعددة، ونجد فيض ذلك في كتابه (الحروف) وكان حُلْم الفارابي مُستلهَماً من جمهورية أفلاطون، وقد ألف كتاب (آراء أهل المدينة الفاضلة) ، وكان يرى النبي محمداً (ص) هو مَن تجتمع فيه صفات القائد الإنساني الأفضل.
ويشارك الفارابيَّ في رؤيته لمكانة النبي محمد (ص) ابنُ سينا ومدرسته السينوية، وهو يعلن قناعته بأن الرسول محمداً هو أرفع شأناً من الفلاسفة جميعاً؛ لأنه معتمِد على الاتصال المباشِر بالمعرفة الإلهية، لكن ابن سينا كان لا يقبل الإيمان الأعمى، وهو متأثِّر بفكر أرسطو، ويدعو إلى استعمال العقل والمنطق والأدلة للوصول إلى ماهِيَّة الخالق بل اعتبر استعمال هذه الوسائل واجباً على كل المسلمين.
وهكذا نجد الثقافة الإسلامية قد تفاعلت مع الثقافات الأخرى بقوةٍ وعُمْقٍ، ولم تُغلِق أبواب الحوار الذي ما يزال مُحتدِماً.