كانت أُولَى التحدِّيَات التي واجهت الإسلام هي التعدُّدية الاجتماعية والفكرية والاثْنِيّة في مجتمع يثرب ومكة وما حولهما، حيث مَهْد ولادة الإسلام، وأحسب أن المبايعة له لم تكن كلها وليدةَ الإيمان (وهذا ما تفسره حركة الرِّدّة السريعة بعد موت الرسول (ص)، والانشقاقات الكبرى عن دولته الوليدة في المدينة) بل كان بعضها رُضوخاً للأمر الواقع، أو تفاعُلاً إيجابياً معه، أو تفادِياً للصِّدام.
لكن النبي (ص) بوصفه حاكماً قدَّم استجابة مُدهِشة لهذا التحدِّي في وثيقة المدينة المنورة، التي تُسمى (الصحيفة) وقد اعتبرها كثير من كبار الباحثين في العالم أعظم وثيقة كُتبت في التاريخ، ومن أهمّ ما جاء فيها أن الرسول اعتبر جميع مكوّنات الدولة الجديدة مسلمين ومسيحيين ويهوداً وسواهم ممن لحق بهم (أُمَّة مِن دُونِ النَّاسِ).
ومن المعروف تاريخياً أن "بني قريظة" و"بني النضير" و"بني قنيقاع" وآخرين نقضوا العهد والميثاق، وقرروا استئصال الإسلام، فكان الردّ الإسلامي عسكرياً صارماً، وبقيت وثيقة المدينة دستوراً عامّاً يحفظ حرية المعتقد والتعبير والحقوق والواجبات في سواسية يحكمها العدل، ومن خرج عليها فهو ظالم.
وأما التحدي الثاني الذي واجهه الإسلام بعد وفاة رسول الله (ص) فهو قضية الحكم والخلافة، وكان رسول الله قد ترك مسألة اختيار الحاكم للناس، فلم يورث الحكم، ولم يوصِ به لأحد، ولم يحدِّد للناس شكل الحكم الذي يختارون، وهكذا كانت كل الصراعات اللاحقة على كرسي الحكم صراعات سياسية بشرية ودنيوية لا علاقة لجَوْهر الدين بها .
وأما التحدي الثالث فقد جاء في الردة عن الإسلام في عهد أبي بكر (رضي الله عنه) فكانت استجابته لهذا التحدي في الحفاظ على الدولة، فهو لم يقاتل المرتدين لإجبارهم على التمسك بالعقيدة (فالإيمان أمر شخصي يصعب البحث عنه في قلوب الناس، ومن المُحال فَرْضه بالقوة) وقد قال أبو بكر بوضوح: (والله لأُقاتلنَّ مَن فَرَّقَ بينَ الصلاةِ والزَّكاةِ، فإنّ الزَّكاةَ حَقُّ المالِ، والله لَوْ مَنَعُونِي عِقالاً كانوا يُؤَدُّونَهُ إلى رَسولِ الله –صلى الله عليه وسلم– لَقاتَلْتُهُمْ على مَنْعِهِ) وأعتقد أن إعلان أبي بكر دفاعَه عن حق الزكاة كان دفاعاً عن حضور الدولة، فأما الصلاة فهي لله، وفيها خصوصية بين الإنسان وربه، وأما الزكاة فهي حق الدولة والمجتمع.
وأما التحدي الرابع فقد جاء بمواجهة فكرية بين العقل والنقل، وكانت استجابة الإسلام رَحْبة في تقبُّل الحوار عند الكبار، وإن كانت ثَمّة انحرافات نحو العنف والإلغاء والإقصاء، فهي انحرافات الحُكّام وليست انحرافات الإسلام.
كان المُعتزِلة أول تيار فكري واضح يطرح أسئلة العقل والفلسفة على الإسلام، وكانت حوارات البصرة تعبيراً عن حالة فكرية تنمو في المجتمع الإسلامي، وقد وصلت إلى حدّ الترف الفكري، وواكبها نمط سلطوي مريع حين اعتنق المأمون والمعتصم والواثق (من الخلفاء العباسيين) أفكار المُعتزِلة وبخاصة قولهم إن (القرآن مخلوق) وكان الإمام أحمد بن حنبل يقول: (القرآن كلام الله) ومن يتابع سيرة ابن حنبل ومَن والاه في قوله وإصراره على رأيه يَعجَب من شدة الظلم الذي وقع على مَن خالف الخليفة في رأيه، وقد تعرض الإمام أحمد إلى الضرب والتعذيب، ولكن هذه الاستجابة الظالمة جاءت من سياسة الحكام وليس من جوهر الإسلام، بدليل أن رأي ابن حنبل ساد في الأمة حين مات الظالمون.
وأعتقد أن أخطر التحديات التي واجهت الإسلام بعد انهيار الدولة العباسية كانت في الصدام المتصاعد مع الخطر الخارجي.
لم تتوقف الحروب مع الروم في العصر العباسي، بل تصاعدت إلى أن وصلت في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي إلى حملات صليبية متتالية، وجاء الامتحان العسير الثاني في غزو المغول للدولة العباسية وسقوط بغداد عام 1258م، ولئن كان العرب قد أخفقوا في تقديم استجابة متينة قادرة على الصمود فإن الإسلام هو الذي قدم الاستجابة الصامدة، ولئن ضاعت أمة العرب في عقود مظلمة توالت فيها الكوارث بعد سقوط بغداد، فإن الإسلام هو الذي حافظ على البقاء المعنوي للأمة، وكانت المفارقة الأولى في التاريخ العربي الإسلامي في انتقال زعامة الإسلام على صعيد الحكم، من العرب إلى أمم أخرى حملت راية الإسلام، وأقول: (على صعيد الحكم فقط؛ لأن العرب الذين فقدوا سيادة دولتهم ومواقع القيادة السياسية والعسكرية كانوا محاربين أشداءَ مخلصين لقادة جُدُد من أمم أخرى غير العرب ما داموا ينتمون إلى أمة الإسلام).
كان خلفاء العباسيين قد بالغوا في الانفتاح على غير العرب، واعتمدوا كثيراً على الفرس والسلاجقة الأتراك، وصار لهؤلاء حضور قويّ منذ العصر العباسي الثاني، وحين سقطت الراية العربية العباسية بسقوط بغداد حمل السلاجقة راية الإسلام حين انصرف الفرس إلى التشيُّع.
كانت دولة الأمويين في الأندلس قد حققت تقدماً حضارياً ما تزال آثاره حيّة إلى اليوم، ولكنها في نهاية عهدها تحولت إلى دول طوائف متناحرة، وباتت منذ مطلع القرن الحادي عشر الميلادي ضعيفة مُنهَكة منقسمة إلى اثنتين وعشرين دولة، لكن استجابة الإسلام للتحدي الذي جسده انهيار الحكم في الأندلس سُرْعان ما ظهرت في المغرب العربي، حيث نهضت دولة "المرابطين" لإنقاذ الأندلس، وبدأت الصعود، وقد تلتها دولة "الموحدين".
لكن من أعظم عجائب التاريخ الإسلامي -كما يقر بها مستشرقون كبار- هي أَنْسَنَة الإسلام للمغول والتتار، لقد كان هؤلاء وحوشاً بشرية يعبدون الشمس والأوثان والكواكب، ويقتلون المسلمين بشراهة حتى قال كثير من المسلمين (هؤلاء سينهون الإسلام) لكن المُفارَقة أن هؤلاء تحوَّلوا بسرعة عجيبة إلى مسلمين أشداءَ، فبعد احتلالهم لبغداد بنحو ثلاثين عاماً دخل الإسلام في عقولهم وقلوبهم، وسُرْعان ما نشروه وأقاموا دولهم في أصقاع آسيا من الصين إلى روسيا إلى تخوم أوروبا، وهم بالطبع إلى اليوم مسلمون.
كان ظهور هذه الدول المغولية الإسلامية تعبيراً عن استجابة الإسلام للتحدي الضخم الذي جسَّده سقوط الدولة العربية أمام المغول أنفسهم قبل دخولهم الإسلام، وأمام الصليبيين الذين استمروا في محاربة الإسلام، ولم يكن المسلمون يحاربون المسيحية؛ لأنهم يؤمنون برسالة السيد المسيح عليه السلام، ولهذا أطلقوا على هذه الحروب اسم حروب الفرنجة.
وفي الشرق ظهرت الدولة البويهية في إيران والعراق منتصف القرن العاشر الميلادي وحتى منتصف الحادي عشر، ولكنها سُرْعان ما غرقت في الصراعات السياسية؛ لأنها مارست التسلط والاستبداد، وقد استولت على بغداد، لكنها سقطت أمام دولة السلاجقة الصاعدة، والتي لم تتوقف عن مواجهة البيزنطيين وقد هزمتهم عدة مرات، وقد استمرت دولة السلاجقة حتى نهاية القرن الثاني عشر.
كان السلاجقة الأتراك وسلاجقة الروم (والمقصود بهم مَن كان رعاياهم من الروم البيزنطيين) قد حملوا راية الإسلام بقوة بعد أن دخلوا الإسلام عام 960م في عهد زعيمهم سلجوق، وقد امتدت دولتهم من أفغانستان إلى إيران والعراق وبلاد الشام والأناضول، ولم يكن الإسلام جديداً على الأتراك، فقد بدأت علاقاتهم مع العرب المسلمين في مرحلة مبكرة بعد ظهور الإسلام، وبالتحديد في السنة الثانية والعشرين هجرية، حين انطلقت جيوش الفتح العربي الإسلامي لفتح آسيا، وقد التقى في بلاد الباب ووراء نهر جيحون والمناطق التي يسكنها الأتراك قائد الجيش الإسلامي عبد الرحمن بن ربيعة بملك الترك شهربراز، وقد طلب من عبد الرحمن عقد اتفاقية صلح وتعاوُن عسكري، وبموجب الاتفاقية شارك الأتراك مع العرب في فتح أرمينيا قبل دخولهم الإسلام، لكن كثيراً منهم أعلنوا إسلامهم في عهد الخليفة عمر، فأما الدخول الأكبر لقبائل الترك في الإسلام فقد كان في عهد عثمان بعد فتح طبرستان، وقد استمر الأتراك في حمل راية الإسلام وأسسوا تحت رايته إمبراطورية كبرى، لكن الصراع الذي أرهق الأمة آنذاك هو الصدام العنيف بين الدولة البويهية الشيعية وبين الدولة السلجوقية، وقد انتهى بزوال البويهية وانتصار السلاجقة الذين هُرعوا للدفاع عن سورية حين غزاها البيزنطيون في عهد الإمبراطور رومانوس 1068م حيث احتلت جيوش بيزنطة قونيا وكانت جزءاً من سورية وكذلك "الرها"، وقد صد هذا العدوان قائد السلاجقة الكبير (ألب رسلان) الذي تمكن من تحقيق نصر ضخم على بيزنطة في المعركة الشهيرة (ملاذ كرد) وقد خلده التاريخ وذكر المؤرخون أنه مضى إلى هذه المعركة وهو يلبس كفنه، وقد تمكن من أَسْر الإمبراطور البيزنطي. وحين تولى السلاجقة حكم دمشق بعد انهيار الدولة الفاطمية فيها، جعلوها عاصمتهم، وقد بنى تتش بن ألب أرسلان قلعة دمشق الشهيرة.
هكذا كانت استجابة الإسلام للتحديات، لكن الاستجابة العربية كانت ضعيفة ومحدودة، وقد استمرت حالة الضعف العربي قروناً، وهي اليوم في أسوأ أحوالها، حيث تملك كل الأمم المحيطة مشاريع ضخمة وترنو إلى مستقبلها، بينما لا يملك العرب مشروعاً خاصاً بهم، وفي الشرق الأوسط تتصادم هذه المشاريع وتتنافس، فثمة مشروع إيراني يتابع طموحه التوسعي، ومشروع تركي يتابع النهوض بعد مائة عام من الانكفاء، ومشروع إسرائيلي صهيوني يتابع التوسع والسيطرة، ومشاريع أوروبية وأمريكية وروسية وصينية، تغصّ بها منطقتنا التي يغيب عنها للأسف مشروع الأمة العربية.
ولئن كانت بعض الدول العربية قد حققت تقدماً في ميادين التنمية والتقدم المديني والاقتصادي والاجتماعي (كما في دول الخليج العربي والسعودية) فإن دولاً كبرى كانت تشكل مركز الأمة وأجنحتها قد فقدت دَوْرها ولن تنهض الأمة دونها، وأخص مصر والعراق وسورية، والمغرب العربي. وللحديث بقية.
إقرأ أيضاً:https://nedaa-post.com/article/Art4988Z2kiPKwT
إقرأ أيضاً:https://nedaa-post.com/article/Art4625zu196KI5