أعود إلى متابعة ما كتبت عن إدوارد سعيد وكتابه المهم (تراجيديا الاستشراق) وأنوّه إلى كتب أخرى له مثل كتابه (الإسلام في عيون العرب) وسيرته الذاتية التي سماها (خارج المكان)، وسر التسمية أن المكان كان في الوجدان، حمله معه إدوارد سعيد المشرد حيث كان، فقد وُلد في القدس عام 1935 وغادرها عام 1947 لكن سنوات الطفولة غذته من أرض فلسطين ما جعله يتشبث بانتمائه إليها رغم أنه صار أمريكياً بامتياز، وكان الإسلام جزءاً من ثقافته العميقة التي تربطه بجذوره الفلسطينية والمسيحية، وهو يكشف عُمق فهمه للإسلام في كتابه (تغطية الإسلام) الذي كشف فيه تزييف وسائل الإعلام الأمريكية حقائق الحياة الإسلامية، ويُعتبر هذا الكتاب الجزء الثالث من كتاب (الاستشراق).
يقول إدوارد: (إن ضآلة ما تعرفه المجتمعات الغربية عن عالمنا الإسلامي هي الأطروحة الجوهرية في هذا الكتاب (تغطية الإسلام).
وهي تحمل مدى الجهل الحقيقي لهذه المجتمعات بحقيقة الدين الإسلامي، والحضارة الإسلامية، فضلاً عن حجم التضليل والتعتيم الذي تُمارسه آلة الإعلام الغربية فيما يخص العالم الإسلامي، جنباً إلى جنب مع ما قدَمه الاستشراق من صور نمطية سادت في الذهنية الغربية لوقت من الزمن، حيث يراه سعيد (أسلوباً غربياً للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلط عليه).
لقد قام إدوارد سعيد بتعرية مفكري الغرب وفضحهم، وكشف الغطاء الفكري والأكاديمي عنهم لتظهر حقيقة كونهم مخبرين لدى أجهزة استخبارات الدول الاستعمارية، وقد احترم العالم صوت الحقيقة التي أطلقها إدوارد، ولم يكن الرجل يومها قد ظهر مدافعاً عن القضية الفلسطينية ذاك الدفاع الذي تفرغ له أواخر حياته؛ حتى اعتبره روبرت فيسك "أهم صوت فعّال في القضية". وفي المقابل أطلقت عليه عصبة الدفاع عن اليهود لقب (نازي).
وربما كان ابتعادُ إدوارد عن الحَراك السياسي العربي آنذاك، وتفرُّغه للبحث الأكاديمي وانتماؤُه للفكر اليساري وإعلانه مقاومة الإمبريالية، ساعده في إيجاد أنصار له في الساحات الجامعية العالمية، لكن خصومه لم يكونوا غافلين عن توجُّهاته فقد أعلن ديفيد برايس بعد وفاة إدوارد بثلاث سنين أن الرجل كان تحت الرقابة في الولايات المتحدة منذ عام 1971. ويبدو أن إدوارد كان براغماتياً بارعاً، فقد كان يعرف جيداً كيف يُسوِّق مواقفه، فهو يجرح بيد ويداوي بأخرى، ولنا أن نذكر مواقف كثيرة تجاهلنا رأيه فيها ولم نعلق عليه، لمعرفتنا بالحدود الضيقة التي يتاح لإدوارد أن يتحرك فيها، فهو في النهاية يعيش في وسط أمريكي، ولكن هذا لم يمنع مثقفين فلسطينيين كباراً من محاسبة مواقفه، ولعل أبرزهم إبراهيم علوش الذي لم يعترض على المكانة الأدبية والنقدية لإدوارد، لكنه أشار إلى أن العرب بالغوا في تقديم إدوارد بوصفه مناضلاً فلسطينياً وطنياً، وهو يذكّر القراء بقول إدوارد لصحيفة "هآرتز" يوم 18/ 8/ 2000: "أنا آخِر مثقف يهودي". ويرى أن تقديم التنازلات لإسرائيل بحجة كسب الرأي العامّ ليس مقبولاً، ويرى آخرون أن موقف إدوارد من روجيه غارودي وانتقاده له لم يكن موفَّقاً كذلك.
غير أن إدوارد كان واضحاً في موقفه من نايبول المحتقن بالعداء للإسلام، وكذلك في حواراته الشهيرة مع برنارد لويس.
وبوسعنا أن نتفهم بعض مواقفه الأخرى، على الرغم من رفضنا لبعضها الآخر، ومن ذلك قيامه بتأسيس "أوركسترا الديوان الغربي الشرقي" عام 1999 في "إشبيلية"، وهي فرقة تضم شباناً إسرائيليين وعرباً، وقد أسسها مع صديقه الموسيقي دانيال بارينبويم، وأعلن أن هدف الفرقة هو التعليم من خلال الموسيقى. وقد قدمت هذه الفرقة معزوفاتها في إسرائيل وفي رام الله وفي بلدان أخرى، وقد رأى كثير من المثقفين العرب في مثل هذا النشاط الموسيقي تطبيعاً مرفوضاً.
إذن، لا بدّ في الحديث عن إدوارد من تقدير الظروف التي عمل بها، كما ينبغي ألا نطلب منه فوق ما نطلب من محمود درويش أو أدونيس، وهما كما يُفترض أكثر التحاماً بالقضية.
لكن الثلاثة (وبينهم إدوارد) وقعوا بياناً ضد عقد مؤتمر يدعو إلى مراجعة التاريخ في جرائم ما بعد الحرب الثانية كان سيُعقد في بيروت عام 2001، وهدفه فضح الأكاذيب والأساطير التي تستخدمها الصهيونية لإضفاء شرعية على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وعلى الرغم من أن إدوارد نفى معرفته الوثيقة بالبيان الذي وقَّع عليه إلا أن ما قاله مرات حول هذه القضية واضح تماماً، لقد قال باختصار: "نحن لا نريد طمس أو عدم توثيق المعاناة البشرية لأي أحد، لكن في الوقت نفسه هناك فرق كبير بين الاعتراف بالمعاناة اليهودية وبين استخدامها لتغطية معاناة شعب آخر". وكل ذلك لم يشفع لإدوارد فقد بقي ملاحقاً ومهدَّداً حتى آخِر يوم من حياته منذ أن تعرض لهجوم على مكتبه في جامعة كولومبيا.
ومن خلال هذه الأجواء نتفهم حرصه على الربط بين الاستشراق واللاسامية؛ فلعله يرى أن الغرب لن يقبل منه حديثاً عن العداء الغربي الاستعماري للعرب ما لم يذكر معه العداء الغربي، ولاسيما الألماني، لليهود. وهو يرى أنه قد تم تصحيحه بقيام دولة إسرائيل، وقد لا نتفق مع رؤيته بالضرورة، فنحن نعتقد أن "وعد بلفور" وخريطة "سايكس بيكو" والانتداب البريطاني على فلسطين أقدم من المحرقة بعقود، وكان يمهد لقيام إسرائيل، لكننا نقدر أنه على موازاة الرواية اليهودية للتراجيديا السامية قدم إدوارد تراجيديا الاستشراق الذي كرس عداء الغرب والصهيونية للعرب، وهو يرى أن معاناة الفلسطينيين لا يمكن تصحيحها كذلك إلا بقيام دولة فلسطينية مستقلة.
وفي ذات المنحى يمكن أن نفهم أن إدوارد كان مقتنعاً بما جاء في خطابه الذي ألقاه في إسبانيا حين مُنح جائزة ولي عهد إسبانيا، هو وصديقه الإسرائيلي دانيال بارنبويم، وقد اشترط إدوارد يومها كما يذكر الدكتور سيار الجميل أن يوضع علم فلسطين إلى جانب علم إسرائيل والولايات المتحدة في الاحتفال فلبي طلبه وقال: "إن فلسطين ليست أرض شعب واحد، بل أرض شعبين لا يمكن لأحدهما إلغاء الآخر أو طرده منها وعليهما أن يتعايشا بسلام ووئام". وقال أيضاً: "إن تاريخه وتاريخ أجداده انقطع عندما تأسست دولة إسرائيل، فكرس حياته للعدالة من أجل شعب فلسطين الذي تميز تاريخه الحديث بالآلام". وأشاد إدوارد بأولئك اليهود من أمثال دانيال بارنبويم الذين، اجتازوا خط الاكتفاء والقبول بالأمر الواقع ليعملوا من أجل قضية هي في النهاية قضيتهم.
ولن نطالب الراحل إدوارد بالتأكيد أن يتبنى مقولات المقاومة بحرفيتها؛ فنحن نتعامل مع أمريكي وهذا ما يراه الأمريكيون فيه، وقد اعتبروه يوماً وسيطاً يحمل اقتراحات إلى عرفات كما يذكر علوش وآخرون، ولست أرى في هذا انتقاصاً من أهمية نضال إدوارد ما دمنا ننظر إليه بخصوصية موقعه. ونحن ندرك أن ما يقال في المحافل الأكاديمية الدولية لا بدّ أن يختلف، ولو في الدبلوماسية، عما يقال في ساحات المواجهة، دون أن يعني ذلك تناقُضاً في الرؤية الفلسطينية للمستقبل. إنه في اعتقادي أمر يتعلق بارتفاع السقف وقامة المتحدث، وما فعله إدوارد على كل حال كان ارتفاعاً إلى شاهق قلّ أن اعتلى مثيلَه عربيٌّ أكاديمي مغترب يريد أن يكون حديثه مسموعاً. لقد كشف إدوارد بحق سخافة وقوع الفكر الغربي أسيراً لذهنية شمولية حاقدة على الشرق كله، وليس على العرب والمسلمين فحسب.
فالغرب المتفوق في ذروة عصره الصناعي رأى الشرق ضعيفاً فنظر إليه بدونية، ولم يغفل إدوارد عن الإشارة المتأنية للتحامل الغربي على الماضي الإسلامي، وقد قال صراحة: "لقد عبّرت الكتابات الاستشراقية عن خوف مؤرِّق من الإسلام ومن العرب"، وهذا ما يسمى اليوم بالرّهاب من الإسلام (إسلاموفوبيا)، ويشير إدوارد إلى أن فلاسفة الغرب من هيغل إلى شبنغلر لم يتعاطفوا مع الإسلام، وقد استمر الخوف منه ومن رديفه العربي حتى العصر الذهبي للاستعمار الأوروبي مروراً بالحروب الصليبية. وقد عاد إدوارد إلى كتابه (الاستشراق) قبيل وفاته، وأضاف ما يمكن اعتباره مواكبة لاستشراق متصل، فكتب الورقة التالية التي أقتطفها وأدعو القارئ العربي إلى تأمُّلها بدقة، حيث يقول إدوارد: "في ورقة بحث كتبها قبل بضع سنوات فرانسيس فوكوياما، الفيلسوف المتغطرس اليميني الذي اُحتفي به لفترة وجيزة لفكرته الحمقاء حول (نهاية التاريخ)، قال إن وزارة الخارجية الأمريكية ستحسن صنعاً إذا تخلصت من المستعربين والناطقين باللغة العربية لديها؛ لأنهم بتعلم هذه اللغة تعلموا أيضاً أوهام العرب.
وفي الوقت الحاضر، يهذر كل فيلسوف متخلف في وسائل الإعلام، بما فيهم خبراء مثل توماس فريدمان، بالطريقة ذاتها، ليضيفوا في توصيفاتهم العلمية للعرب بأن أحد الأوهام الكثيرة للغة العربية هو تلك "الأسطورة" الشائعة التي يحملها العرب عن أنفسهم كشعب. وبحسب خبراء من أمثال فريدمان وفؤاد عجمي فإن العرب هم مجموعة مفككة من المتشردين، وقبائل تحمل رايات، متظاهرين بأنهم أصحاب ثقافة وشعب. ويمكن للمرء أن يلفت إلى أن هذا بالذات وهم استشراقي يتصف بالهلوسة، لا يختلف عن اعتقاد الصهاينة بأن فلسطين كانت خالية من السكان، وأن الفلسطينيين لم يكونوا موجودين هناك ولا يعتبرون بالتأكيد شعباً. ونادراً ما يحتاج المرء إلى المجادلة ضد صحة مثل هذه الافتراضات، فهي تنبع بجلاء من الخوف والجهل".
إن حديثنا عن إدوارد ليس مجرد وفاء له فحسب، إنه في نظري مناسبة لنؤكد أهمية أن يبني المفكرون العرب جسوراً بين الشرق والغرب، وأن يكون الاستغراب الذي من الممكن أن يكون إدوارد أحد بُناته، خارجاً من العقدة التي أسسها الاستشراق ذاته، كي لا يتكرر الوقوع في الرؤية المسبقة، وكي لا تضيع الموضوعية في النقد.
وهنا لا بد من أن أذكّر القارئ بخطر التعميم في الأحكام، وإن كان الموضع هنا لا يتسع للإفاضة، فحسبي أن أذكر أن كثيراً من المستشرقين كانوا أنصاراً للحقيقة. لقد أغفل إدوارد حركة الاستشراق الألمانية، ولم يعطها فسحة كافية في دراسته، ونعلم أن فيها كثيراً من العداء، لكن فيها غوته وآنا ماري شميل، وزنغريد هونكه. وعلى الصعيد العلمي لا يمكن أن ينسى العرب العالم البلجيكي جورج سارتون مؤسِّس تاريخ العلم الذي أنصف العرب والمسلمين أكثر مما أنصفهم أبناؤهم. وثمة آخرون كُثر ينبغي ألا تضيع جهودهم العلمية والأدبية الموضوعية بدءاً من كارستن نيبور والفريق الذي رافقه، وليس انتهاءً بجاك بيرك وروجيه غارودي.