سبق لي أن تحدثت عن الجابري وأوضحت رأيي الشخصي بإنجازه الفكري حين رثيته بعد أن توفاه الله عام 2010 عن خمسة وسبعين عاماً، قضاها في خدمة الثقافة والفكر والعقل العربي، فمنذ طفولته الأولى في مدينة (فكيك) على الحدود المغربية الجزائرية لفت الجابري انتباه معلميه إلى ذكائه ونبوغه وقدرته على التعلم والتفكير، وقلت: إن أهمية الجابري لا تنبع من مؤلفاته الكثيرة ولا من أفكاره الجريئة، ولا من سعته المعرفية بمقدار ما تنبع من الحالة التي أحدثها في الفكر العربي المعاصر، حيث نكاد نُشبِّه حضوره بحضور ابن رشد (1126م – 1198م) وهو أستاذه الذي جاء قبله بنحو ثمانية قرون، ورغم أن ابن رشد لم يَغِبْ لحظة عن الثقافة الأوروبية التي بدا أحدَ مؤسسي نهضتها، لكن حضوره في الثقافة العربية بقي باهتاً عدة قرون كان فيها العقل العربي مستسلماً لثوابته الراكدة، وهذا لا يعني قبولاً بكل ما كتب ابن رشد، ولا رفضاً لكل ما كتب خصومه (الغزالي مثلاً) فلا أحد يمتلك الحقيقة وحده، وحتى ابن رشد نفسه لم يسمِّ كتابه (تهافت الغزالي) وإنما سماه (تهافت التهافت) لأنه لا ينكر على الغزالي كل فكره، وقد تحدثت عن هذا الموضوع في مقالة سابقة عن الغزالي وابن رشد.
لكن الحوار العميق الذي نشط قبل ثمانية قرون وأَثْرَى الحياةَ الفكرية العربية والإسلامية خَبَا وَهَجُه وانطفأت شعلته حين اكتفت الأمة بما لديها من بيان وبرهان وعرفان، وصار صحيحاً أن يقال: إن العقل فيها استقال. حتى بدأت النهضة المعاصرة، وظهر منذ القرن التاسع عشر مفكرون يعيدون النظر بما في المخزن التراثي الضخم، وهو أكبر مستودع للمعرفة تملكه أمتنا العربية، وتباهي بسعته وعمقه ما لدى اليونان والهند وأوروبا؛ لأنه مزيج حضارات مؤسسة في التاريخ، ومنه تستمد أمم شتى هُوِيَّتها التاريخية والفكرية اليوم، إنه مخزن إسلامي تنهل منه إندونيسيا وماليزيا ودول آسيا الوسطى فضلاً عن كونه خزان معارف الإغريق والرومان، وعن كونه شريكاً مؤسساً للنهضة الأوروبية المعاصرة، وكان جنوب أوروبا أحد مهاده بل أرضه الخصبة في الأندلس.
ولقد انطلقت أسئلة النقد لهذا التراث في جرأة عقلانية متأثرة بالغرب الذي حقق انتصارات علمية وعسكرية في وقت تخلفت فيه الأمة العربية والمسلمة عن مواكبة التقدم الحضاري المدهش الذي حققه الأوروبيون، ومع سقوط الدولة العثمانية التي كانت سيدة العالم عَبْر قرون، بدأت المراجعة الفكرية الكبرى، وبدأ بطرس البستاني وعبد الرحمن الكواكبي وشبلي شميل وعبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي وخير الدين التونسي ومحمد رشيد رضا وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وقاسم أمين ومالك بن نبي ولطفي السيد وسلامة موسى وسواهم كثير ممن أعادوا للفكر العربي حضوره ومكانته وأسسوا لما نسميه عصر النهضة العربية على اختلاف أفكارهم ونزعاتهم.
وكان لا بد لهذه النهضة من أن تعيد النظر في مكونات العقل العربي، وأن تبحث في وسائل تحديثه، وأن يستعيد المفكرون المحدثون حضور آبائهم الكبار من المعتزلة إلى إخوان الصفا، ثم إلى ابن سينا والفارابي وابن رشد وابن خلدون، وقد حظي ابن رشد باهتمام لدى المفكرين العرب الباحثين عن مواءمة بين الشريعة والفلسفة، وقد استعاده الجابري بقوة ووجد فيه وفي الإمام الشاطبي وابن حزم وابن خلدون مدرسة فكرية عقلانية، بل إن الجابري رأى في مدرسة قرطبة الفكرية مشروعاً ثقافياً عربياً إسلامياً ظهر في الأندلس والمغرب، مختلفاً أو على الأصح، منافساً ومنازعاً ما عرفه المشرق العربي من مشاريع ثقافية، منذ عصر التدوين، عصر البناء الثقافي العام في الحضارة العربية الإسلامية، إلى عصر دخول هذه الحضارة في مرحلة التراجع والجمود، بعد سقوط الأندلس ورحيل المسلمين عنها.
وينفي الباحثون أن يكون هذا الرأي من الجابري تعصباً للأندلس والمغرب، وتجاهلاً لما أسس المشرقيون العقلانيون الذين يبالغ بعض نقادهم حين يقولون عما جاء من الأندلس: (بضاعتنا رُدت إلينا).
وإذا كانت أهمية ابن رشد الاستثنائية في كونه جمع فضيلتين يندر أن تجتمعا معاً، فهو فقيه وفيلسوف، استخدم أدواته الفقهية ليقدمها حُججاً فلسفية. فإننا نلمح في شخصية الجابري ما يماثل شخصية ابن رشد، فالجابري مولود في بيت ديني، وقد حفظ ثلث القرآن وهو طفل، وكان زوج أمه شيخ الكُتّاب، وتأثر في شبابه برجل سلفي نهضوي هو محمد فرج وتعلم في مدرسته (النهضة المحمدية) وحين شبَّ مضى إلى دمشق ليدرس الفلسفة فيها، ثم تابع دراستها في الرباط، فكانت بعض أوجه التشابه بينه وبين ابن رشد في هذا الجمع بين ثقافة الفقه وثقافة الفلسفة، وربما يكون هناك شبه آخر، هو ما أشار إليه المفكر عزمي بشارة الذي قال في وداع الجابري (أبدع كل من الجابري وسلفه الكبير ابن رشد على تخوم زمان دول الطوائف، على تخوم الخيبات التي سعيا ليحوِّلاها إلى مقدِّمات لآمال جديدة. فهل ينجح مجتمع الجابري حيث أخفق مجتمع ابن رشد؟
ولئن كان مجتمع ابن رشد قد أخفق حقاً كما يقول بشارة، فإن الرجل ذاته لم يخفق، فقد صار مؤسس تيار فكري ما تزال تنبض فيه الحياة، وليس مهماً أن ينتصر تياره الفكري، فمهمة الفكر أن يبقى حائماً يطرح الأسئلة ويبحث عن الإجابات، وهذا خير له من أن يصير سلطة نافذة.
(وللحديث صلة).