ما يدعوني إلى الحديث عن جذور المسألة الشرقية، هو كون هذا الصراع ما يزال مستمراً ومتصاعداً، وأجد من الضروري أن يعرف عامة الشباب شيئاً مختصراً عن طبيعة هذا الصراع وجذوره وتحوُّلاته كي يتعمَّقَ فَهْمهم لواقعهم الراهن.
لقد بدأت المسألة الشرقية في الصراع القديم بين الهلنستية الإغريقية اليونانية وبين المزدكية الساسانية الفارسية منذ القرن الرابع قبل الميلاد. وقد اتخذ هذا الصراع طابعاً اقتصادياً وتوسعياً سلطوياً سياسياً، ثم تحوَّل إلى صراعات دينية بعد ظهور المسيحية ومن بعدها ورث الإسلام هذا الصراع.
لقد تمكن الإسكندر في القرن الرابع الميلادي من إخضاع بلاد فارس والهند، ونشر الثقافة الهيلينية التي ورثتها أوروبا وصبغت حوض المتوسط بألوانها، فقام الفارثيون (من إمبراطورية فرثيا- المناطق حول إيران اليوم) بصد الحملة وأخذوا شرق الفرات إلى حدود منابعه، وبقيت الهلنستية غرب الفرات (مناطق سورية الكبرى) واستمر الصراع حتى القرن الثالث قبل الميلاد.
وقد تحولت طبيعة هذا الصراع إلى صدام ديني يُخفي طموحاته الاقتصادية والسياسية والتوسعية، حين أعلن الإمبراطور الروماني قسطنطين اعتناق المسيحية مطلع القرن الرابع الميلادي، وبعد أن تحولت الإمبراطورية الرومانية إلى إمبراطورية بيزنطة استعاد الصراع ضراوته بقوة بين المسيحية بوصفها ديناً سماوياً، وبين المزدكية المانوية الزرادشتية الوضعية.
وبوسعنا القول: إن حروب هرقل ضد خسرو الثاني الساساني كانت بداية الحروب الصليبية، فقد انتزع الفُرْس الصليب المقدس حتى استرجعه هرقل ووضعه في كنيسة القبر المقدس.
ولقد استمرت هذه الحروب بين الفرس (المانويين) والروم (المسيحيين) في القرن السابع الميلادي حيث ظهر الإسلام، وكان من الطبيعي أن ينحاز المسلمون إلى المسيحيين لكونهم مؤمنين بالله وأصحاب كتاب، وقد حزن المسلمون أشد الحزن حين انهزم الروم أمام الفرس حتى بشر الله المسلمين بنصر الروم، وقال في القرآن الكريم (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) .
وقد بدأت حروب الإسلام الخارجية بالتحرر من سلطان الفرس الذين كانوا يحتلون أطرافاً من الخليج العربي الغربي والشرقي، ويحتلون العراق، وفي ذات الوقت توجهت جيوش المسلمين لتحرير بلاد الشام ثم تحرير مصر والشمال الإفريقي العربي الذي يحتله الروم شرقيين وغربيين. ولا بد من أن نذكر أن حملة أبرهة الحبشي على مكة كانت بدافع رومي، حيث كانت الحبشة المسيحية من أنصار الرومان، وقد حكم الأحباش اليمن، لكن شعب اليمن ثار على حكمهم، فاستغل الفرس ما حدث من فوضى في اليمن وسارعوا إلى احتلالها، وهم يتقاسمون أرض العرب بينهم وبين البيزنطيين، ويخضعون الممالك العربية لنفوذهم، فقد سيطر الفرس على مملكة "المناذرة"، وسيطر الروم على مملكة "الغساسنة"، وتشتَّتَتْ ولاءات العرب بين فرس وروم حتى ظهر الإسلام، وأسقط الإمبراطوريتين.
لقد كانت بداية الفتوحات الإسلامية بعد حروب الردة، معارك تحرير وتخلُّص من الاحتلال الفارسي والبيزنطي الروماني، فضلاً عن هدف معلَن هو نشر الإسلام، ويمكن استبعاد المسألة الشرقية في فتوحات المسلمين الشرقية، حيث ضموا إلى الدولة الأموية أواسط آسيا والهند ووصلوا إلى "كاشغر" في الصين.
لكن المسألة الشرقية استمرت في الصراع، وتطلعت أعين الأمويين إلى اختراق أوروبا كلها، عَبْر طريق من الشرق، عَبْر خطة لفتح القسطنطينية، وطريق آخر يأتي من الغرب بعد انتهاء تحرير الشمال الإفريقي، وقد تم ضم الأندلس، وكادت تضم إلى دولة الأمويين بلاد الغال (فرنسا) وكانت الخطة التي وضعها عثمان بن عفان ورسمها على الرمل، وتابعها القادة الأمويون أن يلتقي الجيشان المسلمان الأمويان وسط أوروبا، لكن الخطة توقفت في معركة (بلاط الشهداء) وسقط عشرات الآلاف من المسلمين على أسوار القسطنطينية، وقد جاء الرد الغربي على المسلمين في سَيْل من الحملات الصليبية (1095- 1291م) التي رفض المسلمون اسمها الديني وسموها (حروب الفرنجة) وقد رد المسلمون عليها بتحرير القدس وبلاد الشام ومصر بقيادة أبطال مسلمين عظماء مثل عماد الزنكي ونور الدين وصلاح الدين وشجر الدر والمظفر قطز والظاهر بيبرس وسواهم، ثم تصاعد الرد بفتح القسطنطينية 1453 بعد كثير من المحاولات العربية ، ولكنه تزامن تقريباً مع طرد المسلمين من الأندلس 1492، لكن العثمانيين تابعوا الرد الإسلامي حتى وصلوا إلى "بودابست" ثم حاصروا "فِيِنّا" واضطر السلطان سليمان القانوني أن يرجع عن فتوحاته لردع الصفويين الذين استولوا على بغداد ونكلوا بأهل السُّنَّة وارتكبوا أبشع المجازر وحروب الإبادة، وتمت استعادة بغداد من الصفويين عام 1529م.
لقد استمرت الحروب الصليبية قروناً وأحسب أنها مستمرة في الأهداف غير المعلَنة إلى اليوم حيث تشهد استعادة خطيرة، عَبْر تحريض إعلامي لا يتوقف ضد العرب والمسلمين، ولا بد من إجراءات سياسية ودبلوماسية دولية رفيعة الشأن لإيقافها قبل السقوط الجماعي في حروب إبادة شاملة، ولاسيما بعد امتلاك دول عديدة أسلحة قادرة على تدمير العالم.
والخطر الأكبر هو استخدام الأديان والمذاهب لجعل هذه الحروب مقدسة، وهذا ما فعلته إيران مثلاً حين احتلت العراق وجنوب لبنان وسورية واليمن بذرائع مذهبية وإعلان أنها تُصدِّر ثورتها وتسعى للثأر للحسين، وهي تسعى تحت راية المذهب الشيعي لاستعادة إمبراطوريتها الفارسية، وهو ذاته ما فعلته الكنيسة الروسية حين باركت الحملة الروسية الراهنة على الشعب السوري لقتال المُطالِبين بالحرية والكرامة والديمقراطية، والرافضين الاستمرار في الخنوع للدكتاتورية وحكم الاستبداد والتمييز الطائفي، معلنة على لسان وزير خارجيتها -لافروف- أنها لن تسمح للمسلمين (أهل السُّنَّة) أن يصلوا إلى الحكم، ومن المعروف أن روسيا تسعى في الحقيقة إلى استعادة دورها القطبي في العالم تحت راية مكافحة الإرهاب السني، متحالفة مع الميليشيات الشيعية التي كانت تدعم الحملات الصليبية ضد المسلمين السُّنَّة عَبْر التاريخ، بينما كان كثير من المسيحيين يقفون ضد الحملات الصليبية مع أشقائهم العرب.
إننا ندرك أن استمرار إيران باحتلال دول عربية أو استمرار تدخُّلها في الشؤون العربية سيحوِّل المنطقة إلى بحار دم، وندرك كذلك استحالة أن يتخلص الفرس من العرب أو أن يتخلص العرب من الفرس، فهناك قدر جغرافي لا بد من الإذعان له، وندعو عقلاء الإيرانيين إلى مراجعة عميقة لطموحاتهم، وإلى احترام حقوق هذا الجوار، والكف عن العدوان، وقد كنا تجاوزنا عَبْر تاريخ طويل صراعات المسألة الشرقية عَبْر قرون ماضية، ووجَّهْنَا أنظارنا إلى ما قدمه علماء الفرس من رفد ضخم للحضارة الإسلامية بعلوم شتى، وأذكر أن وفداً إيرانياً رسمياً طلب مني (حين كنت وزيراً للثقافة في سورية) أن أعرض على الحكومة السورية إلغاء اسم الخليج العربي، والاعتراف بأنه الخليج الفارسي، وبالطبع رفضت، ورفضت الحكومة هذا المطلب، واقترحت عليهم أن نسميه (الخليج الإسلامي) لكنهم رفضوا وأصروا على فارسية الخليج، متجاهلين أن العرب سكنوا المنطقة الشرقية من الخليج العربي قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، وما يزال اسمها التاريخي "عربستان" و"الأحواز" التي فتحها أبو موسى الأشعري، وكانت في شرق الخليج عدة ممالك عربية مثل الدولة "المشعشعية" 1436-1724م وإمارات عربية مثل "إمارة بني كعب" التي حلَّت مكان "المشعشعية" ونالت اعتراف الدولتين الصفوية والعثمانية في القرن الخامس عشر، وكان آخِر حُكّامها الشيخ خزعل الذي سماها الناصرية وقد انتهت عام 1925 م.
وأمام خطر امتداد صراعات المسألة الشرقية مع الغرب لا بد من حسم يفرضه التقدم العلمي في ثورات التكنولوجيا والاتصال والمعلوماتية وتحوُّل الكرة الأرضية إلى قرية كونية صغيرة اختلط فيها الشرق بالغرب، ومن الحماقة أن يدمِّر البشر قريتهم بجنون التسلط وأن يجعلوا هدفهم هذا التنافس الشرير اللانهائي في امتلاك أسلحة الدمار، وأن يظهر فيهم مَن يدعو إلى إبادة ملايين البشر بهدف التوسع والتسلط، والمريع أن يعجز حكماء العالم وهو في ذروة تقدمه، عن إيجاد حلول عقلانية لمشكلات العالم الراهنة بدل الوقوف على حافة الهاوية، وحَسْبُ البشرية ما ذاقت في تاريخها من ويلات الحروب.
وأما الذين يحلمون باقتلاع الأديان وبخاصة مَن يدعون لعالم بلا إسلام، فعليهم أن يُوسِّعوا آفاقَ تفكيرهم، وأن يتذكروا أن الإسلام الذي سادَ العالمَ وبنى أكبرَ دُوَل التاريخ لم يقتلع دِيناً قبله، بل أبقى على كل العقائد والأديان، وسمح لها أن تعيش في رَحابته بأمان، لأنه دِينٌ يدعو إلى حرية البشر وكرامة الإنسان.